جديد الموقع



الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع ( في تشريع الأحكام)

 أبحاث هيئة كبار العلماء
الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع ( في تشريع الأحكام)

(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 187)

أولا : أدلة من قال بالمنع :

استدل من قال بمنع الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع :

أ- أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : إِنَّا أَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فأوجب سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيما شجر بين الناس بما أعلمه الله في كتابه ، وما فهمه من الوحي المنزل عليه . ومن المعلوم أنه يجب على ولاة الأمر بعده أن يحكموا بما حكم به ، وإلزام القاضي ونحوه أن يحكم بما دون من القول الراجح ، أو بمذهب معين ، وإن كان على خلاف ما اقتنع به يتنافى مع ذلك فوجب رده ؟ عملا بمقتضى الآية ، وقال تعالى : وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ والأقوال الراجحة في مسائل الخلاف إنما هي راجحة في نظر مرجحيها دون مخالفيهم ، فلا يتعين أن تكون هي الحق الذي أنزله الله ، وأمر بالحكم به بين الناس فلا يلزم القاضي ونحوه الحكم بها إذا كانت أو كان بعضها على خلاف ما يعتقده حقا في نظره بناء على اجتهاده ، أو ثقته بمن قلده ، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك حين التولية ، أو يلزم به بعدها . وقال تعالى : فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فأمر تعالى من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بين الناس بالحق ، والحق لا يتعين في مذهب أو رأي بعينه ، ولا في قول رجحه بعض الفقهاء ، فلا يلزم القاضي

(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 188)

ونحوه الحكم أو الفتوى به ، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك في التولية أو بعدها لجواز أن يفهم غير هذا الراجح ويقتنع به ، أو يقتنع به ثقة بمن رجحه من المجتهدين ، فيكون حكمه بما ألزم به حكما بغير ما اعتقده حقا ، وهو حرام وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ فأوجب سبحانه الرجوع إلى حكمه الذي أوحاه إلى رسوله في الكتاب أو السنة الثابتة دون الرجوع إلى الراجح عند بعض المجتهدين في مسائل الخلاف .

وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا فأوجب سبحانه طاعته وطاعة رسوله في كل الأمور ، وأوجب طاعة أولي الأمر من الحكام والعلماء فيما وضح أمره وظهر حكمه دون اشتباه والتباس ، بدليل المقابلة بقوله : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ 30 الآية ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : إنما الطاعة في المعروف رواه البخاري ومسلم ، فعند الاختلاف في حكم من الأحكام العلمية الكلية في أصول الدين أو فروعه يجب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط؛ ليتبين الحق في محل الخلاف ، وأكد سبحانه ذلك بقوله : إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ولم يشرع لنا سبحانه الرجوع فيما اختلفنا فيه إلى القول الراجح في نظر بعض

(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 189)

العلماء المجتهدين دون بعض؛ لأنه لم يتعين أن يكون هو الحق حتى يتفق عليه من يعتد بهم في الإجماع فيمكن أن يرجع إليه ، لكونه إجماعا في نظر بعض الأصوليين ، هذا وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة ، اجتزأنا عنها بما ذكر .

ب- وأما السنة : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه ، ومن عرف الحق حسب اجتهاده واقتنع به ، أو اقتنع به واعتقده؛ ثقة لمقلده ، وتحسينا للظن به ، ثم حكم بغير ما ظهر له أنه الحق- فقد جار وأثم ، وكان من أهل النار ، فلا يصح أن يشترط عليه في التولية ، أو يؤمر بعدها أن يحكم بغير ما ظهر له أنه الحق ، وفي معنى هذا كثير من الأحاديث الصحيحة .

ج- وأما الإجماع : فقد جرى العمل على ما تقدم في تولية رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة وإمضائه ما اختلف فيه من الأعمال ، بناء على اختلاف فهم المجتهدين في المسائل النظرية التي يعذر في مثلها من أخطأ ، ثم جرى العمل على هذا في عهد الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من ولاة وعلماء القرون المشهود لها بالخير إلى ما شاء الله ، فكان هذا إجماعا عمليا يلزم الوقوف معه والعمل بمقتضاه ، فلا يصح أن يلزم من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بغير ما رجح عنده عن اجتهاد أو عن ثقة بمن قلده من المجتهدين ، وإن كان ما ألزم به راجحا عند غيره .


(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 190)

المناقشة :

نوقش أولا : بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة من وجوب الحكم بما أنزل الله ، وما جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق ، ولكن لا نسلم أن ما ألزم الحكم به ليس شرعا يجوز العمل به ، إذ هو إلزام بما يسمى شرعا مؤولا ، فهمه الفقهاء مما يسمى شرعا منزلا ، وكلاهما يصح العمل بموجبه والحكم بمقتضاه ، وقد يجاب : بأن مناط الاستدلال إلزام من تولى القضاء أو الإفتاء أن يحكم أو يفتي بخلاف ما يعتقده حقا لا مطلق جواز العمل أو الحكم بما يسمى : شرعا مؤولا ، ولا يلزم من جواز الثاني جواز الأول .

ونوقش ثانيا : بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة في القاضي أو المفتي المجتهد ، أما المقلد فلا رأي له ، بل هو مخير فيمن يتبعه من أئمة الاجتهاد ، فلولي الأمر أن يلزمه بقول من أقوال من في اتباعهم خير؛ رعاية للمصلحة ، وقد يجاب : بأنه وإن كان مخيرا فيمن يتبعه من الفقهاء إلا أنه قد يثق بمجتهد بناء على معرفته بسيرته وأحواله ويعتقد رجحان رأيه ، فلا يجوز إلزامه القضاء أو الإفتاء بغير ما يعتقده .

ونوقش ثالثا : بأن مضرة عدم إلزام القاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي بقول معين قد تكون أشد من مضرة إلزامه بذلك ، فلولي الأمر أن يلزمه بقول معين ، ولو خالف عقيدته في المسائل الاجتهادية؛ رعاية للمصلحة بارتكاب أخف المفسدتين؛ تفاديا لأشدهما ، وقد يقال : إن معرفة ذلك تتوقف على معرفة الآثار المترتبة على كل منهما ، وسيأتي بحث ذلك .

ثانيا : أدلة من قال بجواز الإلزام أو وجوبه :

استدل من قال بجواز إلزام القاضي أو المفتي بمذهب أو قول معين-

(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 191)

بالدواعي والأسباب الطارئة التي اقتضت ضرورة تدوين أحكام المعاملات وإلزام القضاة والمفتين أن يعملوا بموجبها . . كما استدلوا بآثار عن السلف ووقائع قضوا فيها ، ومن لم يثبت عنه قول في ذلك ولا عمل به سكت ولم ينكر ، فكان سكوته تقريرا ، وصار ذلك إجماعا على مشروعية الإلزام .

0 تعليقاتك تهمنا: