السلام عليكم ورحمة الله...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا ولمشايخنا ولمن له حق علينا.
أما بعد:
فكما جرت العادة انه في أول درس بعد انقطاع يكون درسا عاما فيما يفيد طالب العلم في منهجية العلم أو في تعامله مع العلوم الشرعية الأصلية أو المساندة، أو في الآداب العامة، أو في توجيهات تهم طالب العلم وتنفعه.
وهذه المسائل لابد من طَرْقها؛ لأن العلم والآداب ربما كانت في زمن أحوج منها من زمن آخر، ولذلك لا ندري ماذا نستقبل في الأيام والسنين والعقود المقبلة، وربما نفع ما يُذكر في هذه المسائل في هذا البلد أو في غيره، وكثير من المسائل التي تُطرق لا يقصد منها أن ينفع بها المستمع الحاضر فقط؛ بل يتعدى ذلك إلى من يسمع التسجيل وينتفع به في أماكن كثيرة من العالم.
وهذا ولله الحمد من فضل الله جل وعلا على عباده، أن هيأ هذه الوسائل الحديثة، التي تنشر العلم النافع وتنقله، فكم من نقل لما ينفع حصل منه فائدة كبيرة في بلاد كثيرة.
ومما لم نتطرق إليه فيما أذكر في المسائل التي هي مساندة لطالب العلم في سَيْرِه في العلم وفي تعامله معه بحث:
طالب العلم والتأريخ
ومعلوم أنه ما من عالم أو طالب علم يتكلم إلا ولابد أن يكون مستحضرا لشيء من التاريخ؛ لأنه لا انفصال ما بين تاريخ هذه الأمة وما بين شريعتها، فالتاريخ صنعته الأمة بدولها وبما حصل فيها من تقلبات، وصنعه أيضا العلماء وطلبة العلم، وصنعه أيضا المهتمون بالتعليم في المدارس المخصَّصة الموقوفة على العلم، ونحو ذلك من أصناف التاريخ والتأثير فيه كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
والاهتمام بالتأريخ والتأثر به أو التأثير فيه، هذا مما جاء مؤصَّلا في كتاب الله جل جلاله، القصص في القرآن جاءت قصصا عن الرسل، وجاءت قصصا عن أتباع الرسل، وجاءت قصصا عن أمم سلفت، وجاءت أيضا تلك القصص قصصا عن سِير بعض الملوك وعن سِير بعض الدول وعن سِير بعض من أورثهم الله بعض الأرض ثم بغوا فمحق الله جل وعلا عيشهم ?وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ?[القصص:58]، ولهذا لما كان التأريخ مذكورا في كتاب الله جل وعلا اعتنت به فئام كثيرة من علماء هذه الأمة؛ بل اعتنى به العامة نقلا له وتأثرا به وسردا لأحادثه وقصصه.
ولهذا لابد من تأصيل الأصول في هذا الميدان المهم لتكون نبراسا لطالب العلم لما يتعلق بصلته بالتاريخ، وقراءته فيه، ومعرفته لذلك، وكيف ينضبط في أخذ الدروس والعبر، والاستفادة من التاريخ قديمه وحديثه.
( أولا التاريخ هو حركة، وحركة الناس الذي تُنتج عملا وتُنتج دولا وتُنتج علما وتتقلب فيها الحياة، والله جل وعلا يورث الأرض أقواما وينزعها من آخرين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء سبحانه وتعالى.
فإذن التاريخ لا يمكن أن يستهان به، ولا أن يُغفل عنه؛ لأنه إذا غفل طالب العلم عن التاريخ قد غفل عن معرفة كيفية حركة الناس وعلى ما يتأثرون به ويؤثرون فيه.
ومن المعلوم أن العقل الجماعي يختلف تماما عن عقل الأفراد، فعقل الجماعة والمجتمع ربما توجّه إلى شيء لو جرتّها الأفراد من هذا الاجتماع لصارت أفكارهم مختلفة عما يتجه إليه المجتمع برمته فكم من حروب قامت لا يُدرى لما قامت في الحقيقة وانساق الناس إليه.
حرب الصحابة رضوان الله عليهم ما حصل ما بين معاوية رضي الله عنه وما بين علي، وما حصل في وقعة صفين والجمل ونحو ذلك، وما بعدها من الحوادث لا تعرف حقيقة الأسباب التي ولّدت ذلك، إلا بدراسة المتأمل والمتخصص والناس نفوسهم ومشاعرهم هيه هيه، كما قال أحد الفلاسفة: العواطف -عواطف الناس- جبلية لا تتغير.
ففلسفة التاريخ ودراسة التاريخ هذه مهمة جدا؛ لأن نفسيات الناس هيه هيه، ولأن مشاعر الناس تجاه ما يجري في مجتمعاتهم من حيث أساسيات علاقاتهم بعضهم البعض من حيث مواقفهم مما حولهم، نفسيات الناس هيه هيه، تؤثر فيها أشياء ولا تؤثر فيها أشياء، وهذا مما ينبغي العناية به.
( الأمر الثاني أن الله جل وعلا قصّ القصص وجعلها عبرة فقال سبحانه وتعالى ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى?[يوسف:111]، فلما قصّ الله جل وعلا قصة يوسف عليه السلام، قصة أبويه وإخوته، جعل الله جل وعلا هذه القصة فيها من العبرة الشيء الكثير، وهكذا كل القصص التي في القرآن فيها عبرة، فلم تسرد لمجرد المعرفة وإنما هي للاعتبار ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ?.
ولهذا لأجل التأثيرات السياسية والتأثيرات المذهبية واختلاف الناس تجد أن المؤرخين الذين أرّخوا دول الإسلام وحركة الناس أخلوا تلك الكتب الكبيرة والعظيمة من العبرة، فجعلوها سردا للأحداث؛ لأن العبرة استنتاج ولا يريدون أن يُنسب إليهم شيئا من الآراء في خضمّ تلك الأحداث وتلك الآراء التي ماجت بها الدول المختلفة وماجت بها المجتمعات.
لهذا مما ينبغي النّظر فيه، النظر في الدلالات والعبر في التاريخ، فالتاريخ ليس مقصودا لذاته في أن تُعرف القصص والأخبار وقيام الدول، وانتهاء الدول وقيام الحركات وانتهاءها، وخروج من خرج على الولاة، والفتن التي حصلت من دون عبرة؛ بل لابد من أخذ العبرة من ذلك، سواء كانت العبرة في حق الدول، أو كانت العبرة في حق المجتمعات، أو كانت العبرة في حق العلماء أو طلبة العلم و الأفراد.
إذا نظر فطالب العلم في التاريخ معتذرا متأملا مع عدم غلو ولا جفاء في نظرته للتاريخ فإنه ستتكون عنده ملكة علمية وملكة حِكَمية -من جهة الحكمة- لابد له منها، ومن لم ينظر في التاريخ فإنه يكون نظره لاشك قاصرا فيما حوله وفيما يذهب إليه؛ لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فإذا أتته العبرة أخذ بها.
( الأمر الثالث أن المصنفات التي كتبت في التاريخ مصنفات كثيرة متنوعة، وقد خلا التاريخ على مر الأزمان من وضع مصطلح له، اعتنى العلماء بالعلوم الأصلية.
ووضعوا للغة في تراكيبها وضعوا لها قوانين سميت بالنحو.
ووضعوا للفقه أصولا سميت بأصول الفقه.
ووضعوا للحديث مصطلحا سمي مصطلح الحديث.
ووضعوا للتفسير علوما وجعلوا ذلك علوم القرآن أو أصول التفسير.
وهكذا في اللغة جعل للغة أصولا، وجعل لمعاجمها مصطلحات فاعتني في ذلك كله بتفصيله.
أما التاريخ فقد خلا من وضع مصطلح له أو قوانين له، لا من جهة الرواية، ولا من جهة نقد المروي في حد ذاته، ولا من جهة التقييم والعِبر، وكيف يصنف ومن تنقل عنه ومن لا تنقل.
ولهذا كما سيأتي تجد العجب في أنّ كتب التأريخ مليئة بأمور تخالف أصول العقيدة التي في الكتاب والسنة، ومليئة بروايات تنصر مذهبا من المذاهب الرّدية كمذهب الشيعة أو مذهب الخوارج أو المعتزلة على فئاتهم، وهذا مما ينبغي معه التحرير والنظر.
حركة التاريخ نقلت لكن كيف نقل ذلك ومن نقله؟ وهل كان عند الناقل التمييز؟ الجواب: لا.
فإذا نظرات إلى ما كتب، خذ مثلا تاريخ ابن جرير وجدت فيه أشياء كثيرة ليست بمقرة لا من جهة الشريعة، ولا من جهة أيضا نقد المرويات، ولا من جهة الرواة، فقد نقل كثيرا من المرويات عن أبي [مخلف] وحاله معروف، ونقل كثيرا من الروايات عن سيف بن عمر وحاله معروف، ونقل كثيرا من الروايات عن فلان وفلان ممن هم متهمون بالجملة بمناصرة مذهب من المذاهب وفرقة من الفرق فحوروا وغيروا.
( الأمر الرابع أنّ التاريخ من حيث هو في أمة الإسلام قُسِم إلى عدة أقسام.
( فهناك تأريخ للدول، وثم مصنفات كثيرة بتاريخ الدول.
( والقسم الثاني تأريخ الرجال، ويقصد بالرجال رجال العلم، ولم يكن في تلك الأزمان في الاهتمام برجال السياسة أو رجال الوزارة الذين كانوا يستوزرون ونحو ذلك، وإنما كان تاريخ الرجال، الرجال الذين أثروا في العلم إما علم التفسير أو علم الحديث وهو أكثره، أو القراء ونقلة القراءات والبحث في أحوالهم، أو الرجال الذين نقلوا اللغة أو النحاة أو الأدباء ونحو ذلك، فثم مصنفات كثيرة تتعلق بتأريخ الرجال، ولاشك أن الرجال أثروا في حركة التاريخ في زمانهم، الطلاب -طلاب العلم- إذا أخذوا عن العلماء هؤلاء يؤثرون في المجتمع، يؤثرون في المجتمع سلوكا، ويؤثرون في المجتمع فكرا، ويؤثرون في المجتمع علما، وهذا التأثير إما أن يقوي أو يخفف شيئا ما مما يجري في تلك المجتمعات، إن كان خيرا أو إن كان غير ذلك.
( القسم الثالث تاريخ الأقاليم، تاريخ الأقاليم من حيث الناحية الجغرافية، وهذا سُمي في عصور متأخرة؛ يعني جعل تبعا لعلم الجغرافيا، لكن تاريخ البلدان أو تاريخ الأقاليم يدخل ما بين التاريخ الجغرافي وتاريخ الإقليم من حيث الدول المتعاقبة عليه والمدارس التي فيه وخِطط هذا البلد وتغير ذلك والأوقاف التي فيه والمدارس كما هو موجود فيما اطلعتم عليه في تاريخ مثلا بغداد وتاريخ دمشق وتاريخ مصر وتاريخ خراسان ونحو ذلك من التواريخ المكتوبة، وفي معجم البلدان مثلا لياقوت للمستعصم الحموي ما يدل على كثير من ذلك.
إذا تبين هذا فإن الاهتمام بهذه الأنواع جميعا يحصل به عند طالب العلم مَلَكة في العلم وقوة في الرأي والنظر؛ لأن الشمول في طالب العلم مطلوب؛ ولأن هذه العلوم ما دام أنها علوم موجودة في المكتبة الإسلامية يعني الموروثة عن المسلمين، فلابد من العناية بها.
لهذا تجد أن علماء الأمة الكبار كتبوا في التاريخ، فما من عالم إلا وله تاريخ، إما أن يكون له تاريخ دول، وإما أن يكون تاريخ رجال بحسب الفن الذي فيهـ وإما أن يكون تاريخ للبلدان وللأقاليم.
( النقطة الأخيرة وهي الخامسة أن المعاصرين اهتم كثير منهم بالتاريخ في نقده أو في الاستنصار به على طريقة من الطرق أو مذهب من المذاهب أو فكرة من الفكر أو عقيدة من العقائد، وتنوعت الكتابات في ذلك ما بين كتابات فيها دراسة نظرية للتاريخ وتمحيص بحسب منهج الكاتب لما يريد من الروايات، فصار عندنا في المكتبة كمّ هائل من الكتابات المعاصرة في التاريخ.
فمنهم من كتب في تاريخ الدول، ومنهم من كتب في تاريخ الصحابة، ومنهم من كتب في تاريخ العلوم، ومنهم من كتب في تاريخ العلماء، ومنهم من كتب في تاريخ حركات معينة جرت في التاريخ، ومنهم إلى آخره، حتى منهم من كتب في السيرة كتابات المتنوعة يدرس فيها ويأخذ العبر والدروس.
وهذه الكتابات إذا لم تكن منضبطة بضوابط شرعية متّزنة، فإن التاريخ كما أنه مختلف، واختلف الناس فيه يعني في صناعة التاريخ، وصارت هناك دول ومذاهب وفرق وحركات لوثت التاريخ في جملته، فإن هذا الموروث سيُحدث تفرُّقا آخر في الأمة كما هو موجود الآن، فكم من دراسات نتج منها آراء جديدة، ونتج منها مذاهب جديدة في عصرنا الحاضر، ومن رأى المكتبة ربما في هذه البلاد الطيبة لا تتطلعون على كثير جدا من الكتابات المنحرفة في التاريخ؛ لأنها لا تدخل هذه البلاد، ولكن من اطلع في غيرها خارج المملكة وجد الكمّ الهائل من الانحرافات في النظرات إلى تاريخ هذه الأمة.
لهذا ينبغي أن يعتني المتمكنون وحداة العلم الصحيح، وطلاب الشمولية العلم والاستيعاب في العلم والموروثات في العلوم المساندة ويجب أن يعتمد بها ككل حتى تكون نظرتهم أقوى وحتى يكون جذرهم أصلب في معالجة ما تستقبله هذه الأمة من أمور الله أعلم بها.
إذا تبين هذا فنعرض لما يتصل بهذا الموضوع؛ لأن هذا الموضوع متشعب وكبير.
فنعرض أولا إلى تقسيمات التاريخ وهي النقطة الرابعة التي ذكرنا.
فقلنا لك إن التاريخ ينقسم إلى ثلاثة أقسام والذي يهمنا منه الآن قسمان:
القسم الأول هو تاريخ الدول:
وهذه الدول، أو الكتب التي كتبت في ذلك منها ما يتعلق بدولة معينة، مثلا كتب مختصة بالدولة الأموية، والدولة العباسية، أو دولة بني حمدان، أو الدول في اليمن يعني الدول في القرون السابقة، أو دولة في مصر أو الدولة الفاطمية، أو في الشرق في خراسان مما كان في القرون الأولى.
وهذا استمر إلى أن كُتبت الآن بعد التقسيمات الحديثة السياسية للبلدان، كُتبت تواريخ مستقلة تاريخ مصر وتاريخ السودان وتاريخ الجزيرة العربية أو تاريخ المملكة تاريخ اليمن تاريخ الكويت تاريخ العراق تاريخ الشام تاريخ المغرب إلى آخره في كم هائل من التواريخ، ما من بلد بعد التقسيمات الجغرافية إلا نهض بعض المتحمسين فكتبوا تاريخا خاصا لهذه الدول أو الأقاليم؛ لأجل صلة الحاضر بالماضي.
أما في الكتب القديمة فمنهم من سماها دول الإسلام كما صنع الذهبي، والذهبي كما وصفه العلماء علماء عصره ومن بعدهم قالوا: مؤرخ الإسلام. فسمّى دول الإسلام وله كتاب آخر كبير، هذا المختصر الصغير، وكتاب آخر كبير سماه تأريخ الإسلام.
وتسمية الأول بدول الإسلام عندي أنه لا بأس به لن هذه الدول المتعاقبة الدول الإسلامية المتعاقبة إلى زمنه.
أما تسمية الكتاب الآخر تأريخ الإسلام، فهذا فيه تفصيل، وهو أنّ التاريخ ينبغي أن ينسب إلى المسلمين، أما الإسلام من حيث هو فإنّه أجلّ من أن تُنسب إليه تلك المفجر تلك الاعتداءات تلك الفتن، وتلك المبادئ، وتلك الوفرة الهائلة من إراقة الدماء من الصراع على السلطة ومن الصراع على الدول، هو أجل من أن ينسب إليه التاريخ الممزق والتاريخ السيئ هذا، فهو في الحقيقة تاريخ المسلمين وليس تأريخ الإسلام إلا أن يكون المقصود تاريخ أهل الإسلام فهذا لا بأس به.
ولذلك تجد أن بعض المعاصرين ممن كتبوا يحذرون من رجوع حكم الإسلام في بلاد المسلمين، يقولون، كما ذكره طه حسين، كما ذكره بعض المستشرقين، وكما ذكره بعض المردة المتأخرين، كفرج فودة وغيره ممن كتبوا في هذه المجالات قال: انظروا إلى تاريخ الإسلام، فهو بعد انقضاء عصر الخلفاء الثلاثة بدأت المذابح والمقاتل والصراع على السلطة، وسفك الدماء، فلم يستقر الحال إلا في ذلك العصر المثالي الذي هو عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعصر الخلفاء الثلاثة، وما بعده لم يستقر على حال.
وهذا في الحقيقة نظر منهم إلى أن تاريخ المسلمين هو تاريخ الإسلام، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا بأمر الإسلام، والله جل وعلا ابتلى الأمة، لاشك في ذلك، ويجب على طلاب العلم أن ينتبهوا إلى هذا التفريق المهم ما بين تاريخ الإسلام وتاريخ أهل الإسلام تاريخ المسلمين، فهل هذا التاريخ صنعه الأذكياء الأتقياء من أهل الإسلام أم صنعه غيرهم؟ والله جل وعلا يبتلي وابتلى الأمة بفتن كثيرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت في الصحيح سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه ثالثة، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مع أصحابه مرة فمروا بمسجد من المساجد فأتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فركع فيه ركعتين، ثم دعا لما فرغ قال لأصحابه «سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، منعني أن لا يجعل بأس هذه الأمة بينهم شديد» أو كما جاء في الحديث وهذا الحديث بالمناسبة استدلوا به على مشروعية الدعاء بعد صلاة ركعتين تطوّع لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين ثم سأل. وفي سورة الأنعام قال الله جل وعلا ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ? لما نزلت قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أعوذ بوجهك» قال ?أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ? قال «أعوذ بوجهك» قال جل وعلا ?أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم?[الأنعام:65] قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هذه أهون» ولما عظم الأمر عنده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -والآية كما هو معلوم مكية- لما عظم الأمر في المدينة وخشي على الأمة أن يكون بأسهم بينهم دعا الله جل وعلا -كما في الحديث الذي ذكرت لك- فمنع هذه.
فالذي وقع هو ابتلاء من الله جل وعلا وفتنة وعقوبة منه سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن يجعل هذا الأصل في تاريخ أهل الإسلام؛ بل ينبغي أن يُنظر في أن تاريخ الإسلام هو ما يوافق الشريعة، أما الفتن والقلاقل فهذه صنعها في الواقع أعداء الإسلام، فالحروب بين الصحابة التي حصلت هذه إنما صنعها الخوارج -كما هو معلوم- والخوارج إنما حركهم بعض براثن اليهود في قصة عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء كما هو معلوم في تنقله بين بلاد كثيرة وحثّه للخوارج على الخروج وتشنيع وضع عثمان رضي الله عنه في أنفسهم إلى أن حصل قتل عثمان رضي الله عنه وكانت هي القاصمة في فتن كبيرة أتت بعدها وهكذا.
المقصود من هذا أن من صنّف -صنف في دول الإسلام أو في تاريخ الإسلام- وهو المقصود منه تاريخ المسلمين، وهناك كتب كثيرة تعرض للتاريخ من حيث هو؛ يعني من خلق آدم عليه السلام؛ بل قبل ذلك خلق السماوات والأرض، تاريخ الأرض وتاريخ آدم، وما حصل، وتاريخ الأنبياء إلى أن يأتوا إلى السيرة النبوية الشريفة، ثم يأتوا إلى تاريخ أهل الإسلام كما صنع الطبري وصنع ابن الأثير في الكامل وجماعة.
إذن هذا النوع من التاريخ الكتب فيه على أنواع:
النوع الأول: الكتب التي تروي بالأسانيد، وهذه هي الكتب المتقدمة، ويمثلها تاريخ ابن جرير الطبري، تاريخ ابن جرير الطبري يروي بالإسناد، وقد قال العلماء: من روى بالإسناد فقد برئ من العهدة. وفي زمنه كانت الفتن كثيرة، فهو ذكر بالأسانيد ما وجد، وإن كان يُلام من جهة أن بعض الروايات فيها ما لا يوافق الشريعة، أو فيها الغض من بعض الصحابة أو فيها بعض الأقوال التي يجب أن لا تُذكر في مناصرة فرقة من الفرق ونحو ذلك، والأسانيد فيها مشتملة على بعض رجالات تلك الفرق؛ ولكنه أوردها.
هذا النوع الأول تمثل مدرسة ابن جرير الطبري رحمه الله.
النوع الثاني: مدرسة تاريخ ابن الأثير، وابن الأثير جمع ما تفرّق في الكتب قبله واختار من الروايات -وكان مؤرخا نقادا- اختار من الروايات ما يرى أنه صحيح، أو أنه مقارب للحقيقة، وهو كتاب مختصر على قوته اختاره من كتاب ابن جرير ومن كتاب المنتظم لابن الجوزي ومن نحا هذا النحو.
وكتاب ابن الأثير يتميز بالاختصار ولكنه ليس فيه التطبيق الكبير من النواحي الشرعية للروايات، لذلك يشتمل على أشياء ليست بجيدة؛ لكنه من حيث الاستعراض يعتبر كتابا مختصرا حسنا.
القسم الثالث: التواريخ التي مال أصحابها في النقد؛ نقد الروايات وتمييز الروايات بحسب ما هيئ له، وهذه المدرسة جاءت متأخرة بعد ابن الأثير وهي مدرسة الحافظ الذهبي وتبعه عليه بأكثر منه دقة ابن كثير في البداية والنهاية، وكتابه البداية والنهاية يعتبر من أحسن كتب التاريخ انتقاء.
ولكن هذه الكتب جميعا يعاب عليها أشياء: أولا أنهم ينقلون التاريخ الذي حصل من جهة الوقائع والحروب والجهاد والدول والفتوح والخلافات والفتن، ولا ينقلون التاريخ الحسن الذي كانت عليه الدول، فيذكرون مثلا في السنوات يقولون مثلا: دخلت سنة سبعين وفيها حصل كذا وكذا فيذكرون ما حصل مما نقل من الأشياء التي خرجت عن مألوف الناس، وهي الحروب وما حصل من الخلافات، نزع خليفة وموت القائد أو الحروب للأعداء وفتوح جهادية ونحو ذلك؛ لكن لا يذكرون التأريخ الذي نمت به المجتمعات المسلمين في الأمور الحسنة مثلا في العلم وفي التنظيمات الإدارية وفي التنظيمات العلمية ونحو ذلك.
ولاشك أن الحقبة، مثلا إذا أخذت الحقبة الأموية فإنها تميزت بأمور كثيرة:
أولا تميزت بالفتوحات الإسلامية الكثيرة.
الثاني تميزت بكثرة الفتن في داخلها المتعاقبة من خروج من خرج واعتراض من عارض ومن حصول القلاقل واختلاف القواد وانشقاقات كثيرة فيها.
والقسم الثالث الحركة التنظيمية الكبيرة في الدولة التي نظمت فيها الدواوين ونظمت بها المدارس، ونظمت بها كما في العرف المعاصر الوزارات، ونظمت بها حياة الناس، ونظم بها العطاء، ونظم بها الإقطاع، ونظم بها أشياء كثيرة.
فهذه كلها إذا نظرت للتاريخ فإنه يتعرض للأول والثاني، أما الثالث فتكاد لا تجد عنه خيرا إلا بخبر تلوى خبر ينتزعها من خلال سنين كثيرة أو في ترجمة بعض العلماء أو فيما يرد على استحياء.
وهذا في الحقيقة أفقدنا الحركة التاريخية التي هي متّصلة بالناس اتصالا وثيقا، أما الحروب الفتن فهي التي برزت في التاريخ، أكثر ما تجد الحروب والفتن التي بين الخلفاء والولاة وبين القواد والفتن والقلاقل والانشقاقات التي حصلت، ثم الأقل منها الحركات الجهادية، حتى إذا أتى للجهاد فإنه يقول فتح كذا، ولا يأتي تفصيل كثير يعني بقدر التفصيل الذي يكون في الفتن والخلافات التي حصلت.
وهذا لاشك من مآخذ التاريخ وهذا لا يعني أن هذا هو التاريخ.
فيجب على طالب العلم إذا نظر أن يكون عنده نظر ثاقب في أن التاريخ إنما هو تدوين لما حصل، والذي حصل في حياة الناس ليس هو فقط ما ذكر، إذا نظرت مثلا إلى تسلّط القرامطة مثلا وما حصل من تسلط القرامطة على بلاد الإسلام والفاطميين وهم باطنيون كالقرامطة ونحو ذلك، لا تجد في كتب الإسلام في كتب التاريخ الوصف الكبير لمواقف العلماء ووضع المدارس والعلم والتأليف في تلك الفترة، وإنما تجد الخبر عن تلك الدول وما حصل من فتن وقتل ونحو ذلك، وهذه الحركة الكبيرة لا تجدها؛ لكن اليوم مثلا الناس بحاجة إلى أن يعلموا -ناس من طلبة العلم- يعلموا ماذا فعل العلماء وأهل الحديث والأئمة في تلك الفترة لا تكاد تجد إلا الخبر بعد الخبر يعني يُبحث عنه بالمناقيش، وهذا لاشك قصور من المؤرخين؛ لأنهم درجوا على أن لا يذكروا إلا السيئ أو إلا ما خرج عن مألوف الناس، أما ما كان فيه الدراسة والنظر والمواقف العامة والحركة العامة لأهل العلم وحركة المجتمع والناس فلا يوجد من ذلك إلا الشيء القليل.
القسم الثاني تاريخ الرجال: البحث هذا يطول جدا؛ لكن نذكر بعض ما يهم في هذا، تاريخ الرجال مهم، تاريخ الرجال على قسمين:
تاريخ الرجال من حيث تراجم الرجال؛ يعني بيان سير العلماء، سيرة الصحابة، سيرة التابعين، وهذه السير بجميع ما حصل في حياتهم كما صنع ابن أبي حاتم مثلا في مقدمة الجرح والتعديل، وكما صنع عدد من أهل العلم فيما طولوا في تراجم أهل العلم من الصحابة والأئمة.
وهناك نوع آخر يذكر من تراجم العلماء والرجال ما يتصل بالجرح والتعديل فقط كما هو موجود في الكمال وتهذيب الكمال وتعذيب التهذيب إلى آخر هذه السلسلة؛ لأن المقصود من هذه نقد الرواية.
فإذن الكتب المتعلقة بتراجم الرجال هي على قسمين شهيرين:
القسم الأول: تراجم مستوعبة بحياة العالم حياة الرجال وما فيها من محاسن وما فيها من عبر.
والقسم الثاني: مقصودة لفن من الفنون، فيترجم للقارئ لأحد القرّاء أو يترجم كتب القراء فيما يتعلق بفن القراءة، يُترجم في الحديث فيما يتعلق بفن الحديثـ يترجم للنحاة فيما يتعلق بالنحو، لكن لا يترجم جميع الحياة يعني لا يذكر وصفا كاملا لحياة العلماء ولحياة أهل العلم الذين نقلوا العلم وتحملوه ورووه حتى تكون مدرسة لأهله.
فلذلك ينبغي لطلاب العلم أن يعرفوا أن هذا النوع من التاريخ يحتاجون فيه إلى معرفة مدرسة الكاتب، مدرسة من كتب، تارة يكون من كتب يريد أن يذكر جميع حياة الرجل تارة يكون يريد ما يعلي الهمة في شيء معين، مثل ما فعل الذهبي في سير أعلام النبلاء، هو ينتقي من الأخبار ما يكون فيه علو همة لأجل أن يقتدي كل صنف بمن يعجبون به، فذكر أخبار القواد، وأخبار العلماء، أخبار الساسة، أخبار الفضلاء، أخبار التجار يعني الذين كانت لهم محافل كثيرة في الوقوف يعني في الأوقاف وفي المدارس إلى آخره، يعني حتى يقتدى بهم، وحتى يجعل ذلك معنون له بسير أعلام النبلاء.
ولا تأخذ تاريخ العلماء من كتب الجرح والتعديل فقط؛ لأن هذه فيها أو منوطة بالهدف من ذلك والغاية وهو أن تنقد الروايات، ليس المقصود فيها العلماء المقصود كيف تنقد الرواية، فيقول هذه روى عن فلان وروى عنه فلان، وقال فيه أحمد كذا وقال فيه الشافعي كذا.
لو أخذت مثلا حياة الإمام أحمد وهو من هو على جلالته وعظم شأنه وقدره في الإسلام، لو أخذت حياته من كتب الجرح والتعديل لما وجدت شيئا كبيرا فيه ذِكر لحياة أحمد؛ لكن لو رجعت للكتب المطولة التي كتبت عن حياة أحمد كمناقب أحمد للبيهقي وكمناقب أحمد لابن الجوزي وسيرة أحمد بن حنبل، لغيره كسيرة مثلا الشافعي لابن أبي حاتم والرازي وسيرة الشافعي للبيهقي إلى آخره من هذه السيرـ فستجد فيها أخبارا في السيرة تعطيك قدوة وفائدة في جميع جوانب حياة أولئك العلماء وهكذا في حياة المتأخرين تجد الأمر كذلك.
الأمر الثالث أن ينظر في التاريخ دائما على أنّ التاريخ -يعني ما تجده في كتب- التاريخ أن تقرأه دائما بثلاثة أنواع من الإحساس:
الأول الإحساس الشرعي والعقدي بالخصوص.
والثاني الإحساس بالعبرة.
والثالث النقد الدائم للروايات.
أما الأول: فأن تنظر مثلا إلى ما رُوي في السيرة أو روي في تاريخ الصحابة أو في الوقائع بإحساس عقدي شرعي تميِّز فيه ما يصح شرعا ولا يصح؛ لأن الذي ينقل حتى على فرض أنه صح فإنه إنما يصح في حال من وقعت له الحادثة، ومعلوم أن وقعت له الحادثة لا يؤخذ عنهم التشريع لأنهم مثلا من الجند كانوا يقولون كذا، وربما هذه الرواية لا يكون قالها إلا مجموعة رأوا هذا الرأي، فلا يُحكم على الشريعة بالروايات التاريخية، إذا اختلف الصحابة نرجع إلى السنة فيما اختلفوا فيه من المسائل الفقهية، فمسائل التاريخ أولى أن ترد إذا خالفت الشريعة، ولهذا أدخلت أشياء على سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست بصحيحة في ميزان الشرع ليست بصحيحة من جهة الرواية ولا من جهة المروي.
ولهذا الحس النقدي العقدي والشرعي ينبغي أن يصاحب طالب العلم، بحيث أن لا يقرأ مسترسلا، بحيث أنه يقرأ ويمتلئ من التاريخ وهو لا يشعر بأنه يؤثر فيه في بعض المسائل دون أن يحصل.
مثلا الحركات التي حصلت في تاريخ الإسلام التي فيها الخروج على بعض الولاة، إذا قرأها طالب العلم قد يتأثر بها، ويجعل هذه الحركة مقدَّمة في حصول الخروج في حصول معارضة زمان ما -في زمن بني أمية وفي زمن بعض العباسيين أو فيما بعده- يجعل هذه مؤثرة في نفسه دون أن يرجع إلى الأصل؛ وهو ما جاء في النصوص من تحريم الخروج على الولاة ما أقاموا الصلاة أو ما لم يظهر كفر بواحا، أولئك الذين حصل منهم حركات مختلفة في التاريخ يجب أن تنقد النقد الشرعي الصحيح، وأن توزن بميزان عقيدة السلف، وليست هي حكم على عقائد السلف، نغير عقائد السلف لأجل حركة فلان وفلان مما حصل في التاريخ، ليس الأمر كذلك، وهذه الحركات أثرت في أناس؛ بل أثرت في جماعات من الجماعات المعاصرة في الدعوة، وكان هذا التأثر كبيرا في رسم كثير من الاتجاهات المعاصرة في الدعوة.
وهذا مما ينبغي أن لا يكون كذلك؛ بل أن يكون السبيل الرجوع إلى العلم، إذا كان العلم مقدم على الآراء -آراء الرجال-، لاشك أنه مقدم على ما يروي لنا من التاريخ مما لا نعلم حقيقة ظروفه أو قد يكون أهله أخطؤوا فيه أو كان لهم العذر، الله أعلم بالحقيقة فلا نترك الشريعة، فلا نترك النصوص لأجل أخبار وردت في التاريخ.
القسم الثاني أو الإحساس الثاني: الإحساس بالاعتبار، إذا نظر الناظر في ما جاء في التاريخ فيجب العبرة عظيمة.
أولا من جهة الدول يعني من جهة الخلفاء والولاة، فإنه نجد العبرة مثلا في أن الوزراء والبطانة إذا كانت سيئة فإنها تسوء تصرفاتها، هذا مثال، وهذا يختلف باختلاف كل والي كل حاكم وكل خليفة سلبا أو إيجابا، مدا أو جزرا، فمثلا لما أتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقرّب ابن شهاب الزهري وأمره أن يكتب الحديث فعلى قصر ولايته اهتم الناس بتدوين الحديث وبروايته، يعني ينظر في التاريخ من جهة الدول في حالة الوالي وكيف كان صلاحه كيف كان فساده، وكيف حصل من توليته القواد وكيف حصل من ثورة من ثار عليه، وكيف حصل المجتمع فيهم والخلل، فيستفيد من هذه العبرة في الواقع كل من نظر فيها.
فلاشك أنه طالب العلم إذا نظر فإنه ستؤثر فيه، وإذا أثرت فيه، وأخذ العبرة الصحيحة من ذلك، فإنه سينظر إلى الأمور من حوله بنظر آخر في مسائل كثيرة في ما يأتي وفيما يذر، وربما كان القاصر عن دراسة التاريخ وعن العبرة منه، ربما نظر إلى ما حوله من الأمور نظرا قاصرا، ولم يأتِ زعيم من الزعماء ولا قائد من القواد ولا والي من الولاة كان عنده من القوة والعزة ما قدر الله له، إلا فلابد أن يكون قد أخذ من التاريخ العبرة، فمن انعزل عن التاريخ لاشك أنه ينعزل عن التأثير وعن فهم كيف يؤثر في المجتمعات بحسب قدره وما قدر الله له.
نعم إذا نظرنا في العبرة، وفيما يجري في التاريخ والتأثير فيه، فإنه كما ذكرت لكم في محاضرة سابقة أو درس سابق أنّ منهج أهل السنة في هذه المسائل، أنهم يؤثرون في التاريخ ولا يتأثرون، يؤثرون في الأحداث ولا يتأثرون، لم؟ لأنهم على قواعد صحيحة من قواعد الشريعة، والشريعة لا تتبدل ولا تتغير في قواعدها العامة وفي قواعدها الخاصة وفي تحصيل المصالح وفي درء المفاسد، وهم يؤثرون ولا يتأثرون.
نعم قد يكون تأثيرهم محدودا؛ لكن هذا بحسب الزمان، فإذا نظرت مثلا إلى تأثير الصحابة على جلتهم وعلى علو قدرهم علما وإيمانا ومحبة لله جل وعلا ونصرة لدينه، كان تأثيرهم في زمن علي رضي الله عنه محدودا، لم يؤثروا التأثير الذي يجب أن يكون، وكان تأثيرهم في عهد أبي بكر وفي عهد عمر وفي كثير من عهد عثمان كان تأثيرهم قويا، لم؟ لأن المجتمع والناس والحركة هل تقبل هذا التأثير بكماله أو لا تقبل؟
فإذا نظر طالب العلم في العبرة أين العلماء والأئمة والجهابذة عن قوة التأثير في دولة من الدول أو في زمن من الأزمنة؟ لماذا لم يقلبوا أهل الزمان ولا أهل الإسلام في وقت من الأوقات إلى أن يكونوا صالحين مجاهدين مؤثرين مطيعين؟ لأنهم لا يستطيعون، ولأن أمر الله جل وعلا نافذ، ولأن حكمته بالغة.
فإذن تستفيد من التاريخ أن ما من حقبة تاريخية مرت فيها مفاسد كثيرة وفيها من البلاء كثير، إلا وأهل العلم الراسخون والأئمة إلا وهم يؤثرون؛ ولكن ليس بشرط أن يكون التأثير يقلب الحقائق يقلب الواقع، ويغير التغيير الذي يرجوه من لا يعرف كيفية التعامل مع الناس.
حركة المجتمع تنظر إلى التاريخ القديم والحديث إلى أن حركة المجتمع بأجمعه؛ حركة الدولة، حركة الوزراء في الدولة، وحركة القواد، وحركة الناس، وحركة المنتفعين، وحركة المتسلطين، وحركة من يعمل ويصنع، هذه لاشك أنها ستجابه كل وسيلة من وسائل الإصلاح ووسيلة من وسائل التأثير الشرعي المحمود؛ لكن ما الذي صنعه أهل العلم؟
إذا نظرنا في عهد الصحابة كيف أثروا؟ كان تأثيرهم محمودا وعظيما لما كانوا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان؛ لكن لما حصل الخلاف والناس مرجت عهودهم من عهد علي رضي الله عنه ون بعده صار تأثيره ضعيفا، ولم يكن التأثير السابق، لهذا تذكر الكلمة عن علي رضي الله عنه لما قيل له: يا علي لما لا تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر؟ قال: لما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كان الجنود أنا وأمثالي، أو كانت الرعية أنا أمثالي، ولما أتيت كانت الرعية أنتم وأمثالكم.
وهذا بلا شك يحرج المصلح، ويحرج من يريد التأثير، فإذا نظر طالب العلم في التاريخ، نظر إلى أنه مهما عظم قدر المصلح، أو عظم قدر المؤثر أو قدر العالم فإنه سيؤثر، ولكن التأثير القليل، إلا إن كان الله جل وعلا أراد له أن يكون يعني في زمانه أن يكون يقلب التاريخ رأسا على عقب فإن هذا ربما حقق.
إذا نظرت إلى قوة شيخ الإسلام ابن تيمية العلمية والجهادية في زمنه وقوة لسانه وقوة قلمه وقوة حاله، رأيت أن تأثيره لم يكن التأثير الذي يواكب أو يقارن تلك القوة والملكة العلمية والجهادية واللسانية.
لكن إذا أتيت ونظرت مثلا إلى دعوة وأثر الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهو لاشك أقل من شيخ الإسلام ابن تيمية علما ولسانا وكتابة وهم درجات عند الله؛ ولكن كان تأثيره أعظم وأعظم ونفعه ونشر الخير في بلده وفي الجزيرة وفي خارجها ورد الناس إلى حقيقة الدين وحقيقة الإسلام أكبر وأكبر، علمت أن هذا منوط بالتأثير في التاريخ والنظر في حال الدول وقوتها وفي ضعفها وكيف يكون التفاعل مع ذلك.
فإذن ليس من شرط من نَظر نظر عبرة، وهذا الحس إذا نظرت إليه لا تجد أنّ أهل العلم الماضين قد أثّروا في التاريخ وأثّروا في الدول وفي الإصلاح وفي بثّ الخير أثرا متساويا؛ بل كل بحسبه، وبحسب زمانه، وبحسب ما قدر الله له، وبحسب ما يجد من القبول؛ ولكن نظن في الجميع أنهم يجاهدون والناس فيهم ما بين قادح وما بين مستنقص، وما بين مقتد ومحسن للظن، وهم أهل النظر الصحيح، جعلنا الله جل وعلا منهم.
بهذا فإن التأريخ في الحقيقة يحتاج إلى نظر عبرة وليس بنظر إلى قصص مجردة.
الحس الثالث نقد المروي: وقد ذكرت لك أن التاريخ لم يجعل له مصطلحا اسمه مصطلح التاريخ أو أصول قراءة التاريخ ونحو ذلك، ولم يكتب أحد من أهل الإسلام شيئا في ذلك.
وقد رأيت كتابا لمتأخر من الدكاترة الكتاب صدر من نحو خمسين أو ستين سنة بعنوان مصطلح التاريخ لأحد الدكاترة في لبنان أصدرته الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان صنيعه حسنا في أنه أراد أن يطبق مصطلح الحديث في نقد الرواة وفي نقد الروايات، وبيان العلل علل الرواية من حيث هي على التاريخ، بحيث تجمع الروايات وينظر ما فيه تعارض منها فينفى وما فيه زيادة ثقة، يعني أراد أن يطبق مصطلح الحديث على التاريخ لكنه لم يثاب على ذلك، ولاشك أن تطبيق مصطلح الحديث الذي هو أعني الحديث الذي هو المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي العظيم سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل نقد المرويات التاريخية كنقد سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس كذلك؛ لكن لم يتصدر أحد لهذا.
لهذا ينبغي أن تنظر إلى المروي بنظر منطقي بنظر عقلي، هل يعقل أن يكون مثل هذا أو لا يعقل؟ (وهل يعقل) ليس بنظر نظري بحت، ولكن بالنظر إلى دراسة حقبة معينة لذلك التاريخ.
يعني مثلا إذا نظرت مثلا إلى كثرة المرويات هذه التي جاءت عن عهد عثمان رضي الله عنه وما حصل فيه من كذا وكذا، من أنواع الخلل الكبيرة وقصص، لا يعقل أن يكون ذلك المجتمع قابلا لتلك الأشياء.
إذا نظرت مثلا في عصر متأخر إلى قصص هارون الرشيد رحمه الله وما كان عليه من قوة في الجهاد وقوة في نشر الإسلام وأنه كان يحج عاما ويجاهد عاما وكيف كان من قوته ذلك، فلا يمكن أن تصدق ما أشاعه الرافضة والشيعة، وما أشاعه المستشرقون بعد ذلك في العصور المتأخرة بأنه كان مارج السلوك ومارج الأخلاق صاحب سكر وغناء وسهر في الليالي ونحو ذلك.
فيكون هناك نقد ذاتي بعد معرفة الحقبة من حقب التاريخ التي كانت موجودة.
وهذا لاشك يحتاجه طالب العلم احتياجا.
على كل حال الحديث ذو شجون ويطول الكلام فيه؛ لكن هذا مما ينبغي لطالب العلم أن يتعاهده، والمقام قصير لنفصل الكلام على هذه النقاط التي تحتاج إلى كم واسع، وإلى أن ننظر نظرة أخرى على التواريخ المعاصرة كيف ينبغي الاهتمام بها خاصة تاريخ نجد وتاريخ الدعوة الإصلاحية التي لم يفهم أحد الدعوة فهما حقيقيا؛ يعني من حيث المؤلفات التي ألفت ومن حيث الأحكام التي حكم بها ومن حيث حركة المجتمع، إلا بعد أن يقرأ تاريخ نجد، وتاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة فيعلم كيف كانت هذه الحركة.
وكذلك إذا نظرنا إلى بعض الدول الأخرى المعاصرة كيف حصل فيها الخلل وكيف حصل فيها الاستعمار والتغريب، ولابد أن يقرأ التاريخ ويحصل له من ذلك الفائدة والعبرة والعظة، ولاشك أن تأمل كتاب الله جل وعلا يجعل طالب العلم يحرص على قراءة تاريخ قراءة متأنية وقراءة علم لا قراءة هوى.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة]
س1/ ما هو توجيه قول شيخ الإسلام الدين والملك قرينان؟
ج/ هذه أول من قالها أحد وزراء الفرس، قال هذه الكلمة وهي كلمة صحيحة، وقصد بالدين الاعتقاد الذي يقوم عليه الملك أو دولة من الدول، فإنه ما من دولة قامت إلا على أساس، وهذا الأساس إما أن يكون أساس ديني بحت، أو أن يكون أساس قبلي، أو أن يكون أساس من الأساسات.
إذا كان الأساس دينيا فإنه لا تبقى الولاية إلا ببقاء ذلك الأساس، وإذا نظرت إلى أن الدولة المتعاقبة الدولة الأموية الدولة العباسية كان في أول أمرها لغرض من الأغراض، وقرّبوا فيه أهل العلم قووهم بحسب اتجاههم، ثم بعد ذلك تضعف هذه الصلة شيئا فشيئا حتى يحصل ضعف الاعتماد على الدين، وأصلا إنما قَوُوا بالاجتماع على هذا الأساس.
ولذلك الدين والملك قرينان يعني أنهما ركنان لبناء، فإذا قام ملك ما على الدين فإنه إذا اختل ركن اختل الركن الآخر ولابد، وإنا يضعف أساس الملك إذا ضعف أساس الدين، حتى الدين إذا لم يوجد له ناصر من الملك والولاية فإنه لا يقوم، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المؤيد من الله جل وعلا كان يبحث عن واحد ينصره، ولما نصرته الأوس والخزرج سموا الأنصار، وعيسى عليه السلام قال من أنصاري إلى الله؟ فطلب النصر وطلب القوة هذا ديدن الأنبياء عليهم السلام، ولا غرابة أن يقوم ملك على دين، ولا أن يطلب أصحاب الدين المساندة والقوة من دولة أو من ولاية لأن هذا به ينتصر الدين.
المقصود من ذلك أن كلمة الوزير السالف بأن الدين والملك صنوان وركنان فإذا اهتز أحدهما اهتز الآخر، هذه كلمة صحيحة ولاشك فيها، فكل شيء قام على أساس إذا اختل الأساس فإنه لا يقوم قياما صحيحا.
س2/ لقد قرأت في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، لقد ذكر ابن كثير عند موت شيخ الإسلام أن هناك من كان يتبرك بشيخ الإسلام كيف يذكر ابن كثير ذلك مع عدم التنبيه عليه؟
ج/ هذا فيه كثير من هذه الأشياء، وفي كتب التاريخ تجد كثير من ذكر التبركات أو زيارة بعض القبور، دون أن ينبهوا؛ لأن المقصود ذكر الواقع.
هو من العجائب، أن تجد عالما وإماما يعيش حياته لبيان التوحيد وهو ابن تيمية لما مات كان الناس يلقون على جثمانه على جنازته يلقون العمائم ويتمسحون، وهو عاش كل عمره للجهاد في هذا، وهذا يدلك على أن العامة لا تتأثر بكلام أهل العلم إلا إذا كان ثم ولاية، الولاية قوتها بتأثير كلام أهل العلم أكثر من قوة العالم بمراحل، العالم الذي لا يؤيد كلامه وِلاية ولا تنشره في الناس يكون تأثيره محصورا. ومن يقرأ كلامه؟ العامة لا تدري عنه، تعرف أنه رجل صالح مات، ابن تيمية هو رجل صالح نتبرك به ما تخلصوا من هذه العقائد.
حتى ذكر أن بعد وفاة الشيخ عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة، أن منهم من أراد التبرك، وصُرف، منهم من جاء أراد أن يتمسح وصرف، وجاء الغلو ذلك في القصائد التي رُثي بها سماحة الشيخ رحمه الله بعضها فيها غلو شركي وغلو بدعي وتعظيم غير شرعي ومناداة له بعد وفاته مما كان ينهى عنه في حياته رحمه الله رحمة واسعة.
هذا مما تأخذ منه أن من قال أو أحس شيئا من ذلك أنه يحكي الواقع وليس بصدد النقد.
س3/ ظهر منذ زمن بعض الكتّاب الذين يشككون في تاريخ الإسلام وينكرون وجود بعض الأعلام كإنكار القعقاع بن عمرو التميمي، فما هو الباعث لمثل هذا الإنكار؟
ج/ الباعث قد يكون مذهبيا يعني مثلا عندك شخصيتان الشيعة لا يحبون أن يذكرا في التاريخ أو أثر هذين في التاريخ:
الأول القعقاع بن عمرو.
والثاني عبد الله بن السوداء أو ابن سبأ.
وثم كتابات شيعية كثيرة من قديم في أن هاتين الشخصيتين منحولتان، وأن ليس لها وجود، وكتب التاريخ كثيرة يعني ... هذا الذكر وشاع ومن نقد وأثبت عدم الوجود فإنه معارض في إثبات من أثبته.
والمسألة لها بحث تفصيلي آخر مر ومعكم في الوقت كتابات في الجرائد ما بين إثبات ونفي للقعقاع بن عمرو وعبد الله بن سبأ، وكل السلاسل هذه التي تؤثر على بعض الفرق. والجواب التفصيلي له مجال آخر.
س4/ من هو أفضل من كتب في التاريخ في العصر الحديث، ما رأيك في كتابات محمود شاكر رحمه الله؟
ج/ محمود شاكر اثنان سوري ومصري:
المصري أديب وهو الأستاذ المعروف محمود محمد شاكر وهو من الأشراف يعني نسبه يعود إلى الأشراف، وهذا أديب وهو الذي حقق تفسير الطبري وأصدر دلائل الإعجاز والبلاغة لعبد القاهر وكتبا كثيرة في الأدب والتفسير.
أما المقصود بالسؤال هو محمود شاكر الذي هو من الشام، هذا له كتابات في التاريخ؛ لكنها مطولة وكأن المقصود بها الحس التربوي بالشباب، فيذكر فيها أشياء ليس المقصود منها نقد الرواية من حيث هو، وإنما أخذوا من الروايات ما يؤثر في الشباب حتى تدرس دراسات دعوية وهي من جملة الكتب الموجودة في ذلك.
بالمناسبة فيه طبعة لكتاب الكامل لابن الأثير -نسيت أنبه عنها- طبعها محمد منير الدمشقي، وهي في تسعة مجلدات وطبع ثمانية والتاسع طبع بعد وفاته، وهذه الطبعة فيها تعليقات في نقد كثير من المرويات لأحد كبار المؤرخين المصريين وهو الأستاذ عبد الوهاب النجّار وهو من المؤرخين المعروفين في مصر، وله تعليقات حسنة في كثير من الوقائع التاريخية.
فالانتباه لهذه الطبعة ولهذه التعليقات مهم لطالب العلم إذا أراد الدراسة.
س5/ أيهما أصح في الكتابة وفي نطق كلمة: التأريخ بالهمزة والتاريخ؟
ج/ طبعا من الأصل الاشتقاقي تأريخ، التأريخ بالهمز لأنها أرّخ يؤرخ الهمز أصلي فيها أرخ يؤرخ تأريخا، وأما التاريخ فهو تسهيل، والتسهيل موجود في القرآن في الهمز في مواضع كثيرة عند بعض القراء، مثلا معروف قراءة نافع بالتسهيل وعدم القراءة بالهمز في واضع كثيرة.
وأيضا تطلق التوريخ لأن الهمزة تبدل بواو في في بعض المواضع وبعض أهل العلم يسميه التوريخ، كأن أرّخ جعلها ورَّخ يورخ توريخا، وهذه ليست شائعة وإن استعملها بعض أهل العلم.
المقصود أن الذي على وفق اللغة على وفق الاشتقاق التأريخ بالهمز، وأما التاريخ فهو تسهيل.
س6/ يمرّ كثيرا في البداية والنهاية عندما يترحّم ابن كثير لبعض الصالحين يقول: رحم الله فلانا وقد فعل. فما هو حكم هذا القول ؟
ج/ قد فعل إذا كان المراد بالرحمة بالموت على الإسلام وعدم زيغ القلب قبل الوفاة فهذه العبارة صحيحة، أما إذا كان المقصود الرحمة النجاة من العذاب ودخول الجنة هذه شهادة لميت، وكما تعلمون أن أصل أهل السنة أنه لا يشهد لأحد مات من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
س7/ ذكرتم رحمكم الله أن العلماء ربما كان تأثيرهم في التاريخ ضعيف وهذا حق، ما رأيك لو كان السبب من العلماء أنفسهم ومثاله في عصرنا عدم استغلال وسائل الإعلام المرئي في الدعوة إلى آخره؟
ج/ لو استغلوا هل المعارض لما يقولون هل هو كثير أم قليل؟ أنت الآن أنظر في التقييم إلى وضعك أنت، وإن شاء الله لا نزكي أحدا؛ لكن وضع الرجل الصالح في بيته، هل أهل بيته يطيعونه في كل شيء؟ والذي عنده أولاد كبار وهو يعيش معهم هل يطيعونه في كل شيء، هو له تأثير هذا في بيته، الذي لهم الولاية فيهم؛ لكن هم يطيعونه في أشياء، لكن المدرسة يؤثر من جهة، الشارع يؤثر، الأصحاب يؤثرون، الأقارب في أنفسهم الأخت والأخ والعم والخال لأن لا يستطيع أن ينعزل والشرع ما أمر بالانعزال هؤلاء يؤثرون، فإذا نظرت غلى هذه الخلية، هل تستطيع أن تؤثر فيها بكل التأثير الذي تريد ليس كذلك.
فيه عدد يريدون أن يكون أولادهم على مستوى من الصلاح يرغبونه؛ لكن لا يكون لأن المؤثرات أكبر، لأنه هو ربما ما استطاع أن يؤثر التأثير الإيجابي على ولده أو على أخيه، يكون شاب صالح له في البيت أخ فاسد فاسق يعني لا يصلي ويأتي الموبقات ما يستطيع أن يؤثر عليه وهو يعيش معه يتكلم وبنصح وبقول.
لكن الأمر أكبر من ذلك وهو الأمة فإنه لا يظن في الإنسان أنه مطلوب منه أنه إما أن يكون لما يقول كل الأثر أو لا يفعل.
مثلا نضرب مثالا، مثلا -وأنا كما تعلمون- عانيت بعض الشيء في المسائل الرسمية وفي التأثير على بعض الناس سواء في الداخل أو في الخارج.
تريد أن تؤثر بكل ما تريد فلا تستطيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يقبلوا كل شيء؛ لكن أن تؤثر وأن تجاهد في أن تؤثر، وأن تقرب الناس بشيء وتأمرهم وتحقق مراد الله جل وعلا في هذا هو المطلوب.
لكن هل تستطيع أن تؤثر في كل شيء؟ لا تستطيع أن تؤثر في كل شيء، أحيانا تأتي مسائل تدرأ مفسدة لدرء مفسدة أكبر، تتحمل شيء لتفويت شيء أكبر مفسدة لو حصلت، وتارة تدرج من عندك أو من تدرج شيء تريد أن يحصل في الناس في المجتمع أو في الخارج أن تدرجه شيئا فشيئا.
التعامل مع النفوس أصعب ما يكون، وتارة تأتي وتعمل شيئا في مكان من الأمكنة، ثم تذهب وينشرح الصدر على أن هذا يؤثر، ما تدري بعد ذلك إلا أن تأتي أشياء أخرى تصرف النظر عن قبول مثل هذا الأمر أو عن مثلا توجه المركز الإسلامي عن هذا لما اتفقت معهم عليه، الحركة هذه حركة جهاد يعني مجاهدة، لو كان الأمر كذلك لأطاع الكفار أنبياء الله جل وعلا من أول وهلة؛ لكن لا يخلو من المجاهدة.
فإذن التأثير ليس هو المطلوب، المطلوب العمل؛ يعني ليس المطلوب أن تضع في نفسك أن تؤثر وإن لم تؤثر يئست وقنت هذا لا يمكن أن يرتبط بالناس، المهم أن تعمل وأن تجاهد بحسب ما كتب الله لك.
طالب العلم يجاهد في التعليم في التدريس، في نشر الخير بحسب ما يستطيع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كتب الله له ولاية أو سلطة يجاهد بحسب ما عنده ويأمر وينهى وينشر الخير ويحفز وينصح للأمة ولأئمة المسلمين ولعامتهم، بحسب ما قُدّر له، آخر استطاع أن يؤثر في زملائه وفي الدعوة والخير يفعل ذلك.
لكن هل يقول إذا لم يؤثر فإن معنى ذلك ينقطع عنه؟ نوح عليه السلام وهو المؤيد بإذن الله جل وعلا وهو أول أولي العزم من الرسل مكث ألف سنة إلا خمسين عاما ما آمن معه إلا قليل.
هل المقصود التأثير؟ المقصود العمل؛ لأننا متعبدون بالعمل.
لذلك يخطئ عدد، يخطئون شرعا في أن يقول: فلان إيش سوى؟ أوش أثر عمله؟ ليس السؤال هذا.
السؤال: هل عمل أم لم يعمل؟
أما: هل تأثر الناس أم لم يتأثروا؟ هذا ليس هو المهم، إذا نظرت إلى داعية أو إلى إمام مسجد هل أثرت أم لم تؤثر؟ ليس هذا المقصود، إذا حصل التأثير هذا نعمة وفضل من الله جل وعلا، وإذا لم يحصل فتذكر قول الله جل علا ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?[البقرة:272]، المهم أن تعمل، ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ?[النحل:125]، وكذلك قول الله جل وعلا ?فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ?[الشورى:15]، وكذلك في قوله جل وعلا ?وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا?[المائدة:77].
هذه هي الأصول العامة هي التي ينبغي للإنسان أن يعمل بها، حصلت النتيجة أو لم تحصل، هذا من عند الله جل وعلا.
س9/ من أحرم للحج وعند دخوله لمكة منع من الدخول لعدم حمل التصريح، فهل عليه شيء في ذلك علما بأنه يعرف القرار عن التصريح؟
ج/ أولا ينبغي له أن يلتزم؛ لأن هذا مبني على فتوى شرعية من هيئة كبار العلماء وينبغي له أن يطيع ولاة الأمر من العلماء في فتواهم الشرعية، وأنْ لا يقدم على ذلك، وإذا حصل مثل هذا فإذا فاته الحج فإنه يكون محصرا يتحلل بعمرة، كما هو معلوم، يعني ينتظر إلى يوم عرفة محرما، ثم بعد ذلك إذا فات خلاص، انتهى الحج يأتي يدخل بعمرة، ويتم عمرته؛ ولكن الحج بعد الإحرام به لا يُرفض؛ يعني لا يمكن أن يخرج من الحج إلا بالطواف والسعي إلا بتمام أركانه، الحج إذا كان تمكن وإذا أحصر أو منع فلابد من تحلله بعمرة.
س10/ يدعو بعض المعاصرين لدراسة التاريخ دراسة حديثية؟
ج/ أشرت لك أن هذا غير مقبول ولا يمكن تطبيقه.
س11/ هل يمكن أن يؤصل طالب العلم نفسه من جهة التاريخ من خلال قراءته لمقدمة ابن خلدون؟
ج/ لاشك مقدمة ابن خلدون نافعة في حركة المجتمعات، الحركة العلمية والحركة العمرانية والحركة النفسية وحركة الدول ومن يصلح وكيف تقوم، هي نواة جيدة لهذا الأصل.
س12/ أقترح عليكم أن تشرحوا المنظومة القحطانية؟
ج/ ليست من الكتب الأصلية التي تشرح.
س13/ الفرق بين أسانيد المؤرخين والمحدثين ما هو أثره وأسبابه؟
ج/ هو من جهة الحديث يشدد فيه، والتاريخ لا يشدد فيه من جهة الرواية، يعني الحديث لا نقبل رواية من يخطئ مثلا كثيرا؛ ولكن في التاريخ قد تقبل كان معروفا في السيرة، مثلا ابن إسحاق رحمه الله تعالى لا يُقبل في الحديث إلا بشروط كما هو معلوم؛ لكنه في التاريخ هو صاحب سيرة وصاحب مغازي، فما أتى به فهو مقبول لأن هذا اختصاص الرجل رحمه الله.
س14/ هل اطلعتم على فقه التاريخ للشيخ عبد الحميد الشيباني وفقه الله، وما رأيكم؟
ج/ مع الأسف ما اطلعت عليه لعله يكون تنبيه للإطلاع عليه.
نكتفي بهذا القدر وفقكم الله.
بما أن الباقي من هذا الفصل قليل، ربما شهر ونصف أظن للاختبارات، إلى نصف صفر تقريبا شهر ونصف، فصار الاختيار لكتاب مسائل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله، لنكمل ما سبق بدأته فيه عام 1412هـ يعني بعد ثماني سنين.
نبدأ من المسألة الحادية والأربعين إن شاء الله تعالى لأجل قصر، ونقف إن شاء الله مع الفصل القادم، نبدأ في كتاب جديد حتى نستمر فيه بإذن الله تعالى وفقكم الله وأعانكم وزادني الله وإياكم من كل خير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا ولمشايخنا ولمن له حق علينا.
أما بعد:
فكما جرت العادة انه في أول درس بعد انقطاع يكون درسا عاما فيما يفيد طالب العلم في منهجية العلم أو في تعامله مع العلوم الشرعية الأصلية أو المساندة، أو في الآداب العامة، أو في توجيهات تهم طالب العلم وتنفعه.
وهذه المسائل لابد من طَرْقها؛ لأن العلم والآداب ربما كانت في زمن أحوج منها من زمن آخر، ولذلك لا ندري ماذا نستقبل في الأيام والسنين والعقود المقبلة، وربما نفع ما يُذكر في هذه المسائل في هذا البلد أو في غيره، وكثير من المسائل التي تُطرق لا يقصد منها أن ينفع بها المستمع الحاضر فقط؛ بل يتعدى ذلك إلى من يسمع التسجيل وينتفع به في أماكن كثيرة من العالم.
وهذا ولله الحمد من فضل الله جل وعلا على عباده، أن هيأ هذه الوسائل الحديثة، التي تنشر العلم النافع وتنقله، فكم من نقل لما ينفع حصل منه فائدة كبيرة في بلاد كثيرة.
ومما لم نتطرق إليه فيما أذكر في المسائل التي هي مساندة لطالب العلم في سَيْرِه في العلم وفي تعامله معه بحث:
طالب العلم والتأريخ
ومعلوم أنه ما من عالم أو طالب علم يتكلم إلا ولابد أن يكون مستحضرا لشيء من التاريخ؛ لأنه لا انفصال ما بين تاريخ هذه الأمة وما بين شريعتها، فالتاريخ صنعته الأمة بدولها وبما حصل فيها من تقلبات، وصنعه أيضا العلماء وطلبة العلم، وصنعه أيضا المهتمون بالتعليم في المدارس المخصَّصة الموقوفة على العلم، ونحو ذلك من أصناف التاريخ والتأثير فيه كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
والاهتمام بالتأريخ والتأثر به أو التأثير فيه، هذا مما جاء مؤصَّلا في كتاب الله جل جلاله، القصص في القرآن جاءت قصصا عن الرسل، وجاءت قصصا عن أتباع الرسل، وجاءت قصصا عن أمم سلفت، وجاءت أيضا تلك القصص قصصا عن سِير بعض الملوك وعن سِير بعض الدول وعن سِير بعض من أورثهم الله بعض الأرض ثم بغوا فمحق الله جل وعلا عيشهم ?وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ?[القصص:58]، ولهذا لما كان التأريخ مذكورا في كتاب الله جل وعلا اعتنت به فئام كثيرة من علماء هذه الأمة؛ بل اعتنى به العامة نقلا له وتأثرا به وسردا لأحادثه وقصصه.
ولهذا لابد من تأصيل الأصول في هذا الميدان المهم لتكون نبراسا لطالب العلم لما يتعلق بصلته بالتاريخ، وقراءته فيه، ومعرفته لذلك، وكيف ينضبط في أخذ الدروس والعبر، والاستفادة من التاريخ قديمه وحديثه.
( أولا التاريخ هو حركة، وحركة الناس الذي تُنتج عملا وتُنتج دولا وتُنتج علما وتتقلب فيها الحياة، والله جل وعلا يورث الأرض أقواما وينزعها من آخرين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء سبحانه وتعالى.
فإذن التاريخ لا يمكن أن يستهان به، ولا أن يُغفل عنه؛ لأنه إذا غفل طالب العلم عن التاريخ قد غفل عن معرفة كيفية حركة الناس وعلى ما يتأثرون به ويؤثرون فيه.
ومن المعلوم أن العقل الجماعي يختلف تماما عن عقل الأفراد، فعقل الجماعة والمجتمع ربما توجّه إلى شيء لو جرتّها الأفراد من هذا الاجتماع لصارت أفكارهم مختلفة عما يتجه إليه المجتمع برمته فكم من حروب قامت لا يُدرى لما قامت في الحقيقة وانساق الناس إليه.
حرب الصحابة رضوان الله عليهم ما حصل ما بين معاوية رضي الله عنه وما بين علي، وما حصل في وقعة صفين والجمل ونحو ذلك، وما بعدها من الحوادث لا تعرف حقيقة الأسباب التي ولّدت ذلك، إلا بدراسة المتأمل والمتخصص والناس نفوسهم ومشاعرهم هيه هيه، كما قال أحد الفلاسفة: العواطف -عواطف الناس- جبلية لا تتغير.
ففلسفة التاريخ ودراسة التاريخ هذه مهمة جدا؛ لأن نفسيات الناس هيه هيه، ولأن مشاعر الناس تجاه ما يجري في مجتمعاتهم من حيث أساسيات علاقاتهم بعضهم البعض من حيث مواقفهم مما حولهم، نفسيات الناس هيه هيه، تؤثر فيها أشياء ولا تؤثر فيها أشياء، وهذا مما ينبغي العناية به.
( الأمر الثاني أن الله جل وعلا قصّ القصص وجعلها عبرة فقال سبحانه وتعالى ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى?[يوسف:111]، فلما قصّ الله جل وعلا قصة يوسف عليه السلام، قصة أبويه وإخوته، جعل الله جل وعلا هذه القصة فيها من العبرة الشيء الكثير، وهكذا كل القصص التي في القرآن فيها عبرة، فلم تسرد لمجرد المعرفة وإنما هي للاعتبار ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ?.
ولهذا لأجل التأثيرات السياسية والتأثيرات المذهبية واختلاف الناس تجد أن المؤرخين الذين أرّخوا دول الإسلام وحركة الناس أخلوا تلك الكتب الكبيرة والعظيمة من العبرة، فجعلوها سردا للأحداث؛ لأن العبرة استنتاج ولا يريدون أن يُنسب إليهم شيئا من الآراء في خضمّ تلك الأحداث وتلك الآراء التي ماجت بها الدول المختلفة وماجت بها المجتمعات.
لهذا مما ينبغي النّظر فيه، النظر في الدلالات والعبر في التاريخ، فالتاريخ ليس مقصودا لذاته في أن تُعرف القصص والأخبار وقيام الدول، وانتهاء الدول وقيام الحركات وانتهاءها، وخروج من خرج على الولاة، والفتن التي حصلت من دون عبرة؛ بل لابد من أخذ العبرة من ذلك، سواء كانت العبرة في حق الدول، أو كانت العبرة في حق المجتمعات، أو كانت العبرة في حق العلماء أو طلبة العلم و الأفراد.
إذا نظر فطالب العلم في التاريخ معتذرا متأملا مع عدم غلو ولا جفاء في نظرته للتاريخ فإنه ستتكون عنده ملكة علمية وملكة حِكَمية -من جهة الحكمة- لابد له منها، ومن لم ينظر في التاريخ فإنه يكون نظره لاشك قاصرا فيما حوله وفيما يذهب إليه؛ لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فإذا أتته العبرة أخذ بها.
( الأمر الثالث أن المصنفات التي كتبت في التاريخ مصنفات كثيرة متنوعة، وقد خلا التاريخ على مر الأزمان من وضع مصطلح له، اعتنى العلماء بالعلوم الأصلية.
ووضعوا للغة في تراكيبها وضعوا لها قوانين سميت بالنحو.
ووضعوا للفقه أصولا سميت بأصول الفقه.
ووضعوا للحديث مصطلحا سمي مصطلح الحديث.
ووضعوا للتفسير علوما وجعلوا ذلك علوم القرآن أو أصول التفسير.
وهكذا في اللغة جعل للغة أصولا، وجعل لمعاجمها مصطلحات فاعتني في ذلك كله بتفصيله.
أما التاريخ فقد خلا من وضع مصطلح له أو قوانين له، لا من جهة الرواية، ولا من جهة نقد المروي في حد ذاته، ولا من جهة التقييم والعِبر، وكيف يصنف ومن تنقل عنه ومن لا تنقل.
ولهذا كما سيأتي تجد العجب في أنّ كتب التأريخ مليئة بأمور تخالف أصول العقيدة التي في الكتاب والسنة، ومليئة بروايات تنصر مذهبا من المذاهب الرّدية كمذهب الشيعة أو مذهب الخوارج أو المعتزلة على فئاتهم، وهذا مما ينبغي معه التحرير والنظر.
حركة التاريخ نقلت لكن كيف نقل ذلك ومن نقله؟ وهل كان عند الناقل التمييز؟ الجواب: لا.
فإذا نظرات إلى ما كتب، خذ مثلا تاريخ ابن جرير وجدت فيه أشياء كثيرة ليست بمقرة لا من جهة الشريعة، ولا من جهة أيضا نقد المرويات، ولا من جهة الرواة، فقد نقل كثيرا من المرويات عن أبي [مخلف] وحاله معروف، ونقل كثيرا من الروايات عن سيف بن عمر وحاله معروف، ونقل كثيرا من الروايات عن فلان وفلان ممن هم متهمون بالجملة بمناصرة مذهب من المذاهب وفرقة من الفرق فحوروا وغيروا.
( الأمر الرابع أنّ التاريخ من حيث هو في أمة الإسلام قُسِم إلى عدة أقسام.
( فهناك تأريخ للدول، وثم مصنفات كثيرة بتاريخ الدول.
( والقسم الثاني تأريخ الرجال، ويقصد بالرجال رجال العلم، ولم يكن في تلك الأزمان في الاهتمام برجال السياسة أو رجال الوزارة الذين كانوا يستوزرون ونحو ذلك، وإنما كان تاريخ الرجال، الرجال الذين أثروا في العلم إما علم التفسير أو علم الحديث وهو أكثره، أو القراء ونقلة القراءات والبحث في أحوالهم، أو الرجال الذين نقلوا اللغة أو النحاة أو الأدباء ونحو ذلك، فثم مصنفات كثيرة تتعلق بتأريخ الرجال، ولاشك أن الرجال أثروا في حركة التاريخ في زمانهم، الطلاب -طلاب العلم- إذا أخذوا عن العلماء هؤلاء يؤثرون في المجتمع، يؤثرون في المجتمع سلوكا، ويؤثرون في المجتمع فكرا، ويؤثرون في المجتمع علما، وهذا التأثير إما أن يقوي أو يخفف شيئا ما مما يجري في تلك المجتمعات، إن كان خيرا أو إن كان غير ذلك.
( القسم الثالث تاريخ الأقاليم، تاريخ الأقاليم من حيث الناحية الجغرافية، وهذا سُمي في عصور متأخرة؛ يعني جعل تبعا لعلم الجغرافيا، لكن تاريخ البلدان أو تاريخ الأقاليم يدخل ما بين التاريخ الجغرافي وتاريخ الإقليم من حيث الدول المتعاقبة عليه والمدارس التي فيه وخِطط هذا البلد وتغير ذلك والأوقاف التي فيه والمدارس كما هو موجود فيما اطلعتم عليه في تاريخ مثلا بغداد وتاريخ دمشق وتاريخ مصر وتاريخ خراسان ونحو ذلك من التواريخ المكتوبة، وفي معجم البلدان مثلا لياقوت للمستعصم الحموي ما يدل على كثير من ذلك.
إذا تبين هذا فإن الاهتمام بهذه الأنواع جميعا يحصل به عند طالب العلم مَلَكة في العلم وقوة في الرأي والنظر؛ لأن الشمول في طالب العلم مطلوب؛ ولأن هذه العلوم ما دام أنها علوم موجودة في المكتبة الإسلامية يعني الموروثة عن المسلمين، فلابد من العناية بها.
لهذا تجد أن علماء الأمة الكبار كتبوا في التاريخ، فما من عالم إلا وله تاريخ، إما أن يكون له تاريخ دول، وإما أن يكون تاريخ رجال بحسب الفن الذي فيهـ وإما أن يكون تاريخ للبلدان وللأقاليم.
( النقطة الأخيرة وهي الخامسة أن المعاصرين اهتم كثير منهم بالتاريخ في نقده أو في الاستنصار به على طريقة من الطرق أو مذهب من المذاهب أو فكرة من الفكر أو عقيدة من العقائد، وتنوعت الكتابات في ذلك ما بين كتابات فيها دراسة نظرية للتاريخ وتمحيص بحسب منهج الكاتب لما يريد من الروايات، فصار عندنا في المكتبة كمّ هائل من الكتابات المعاصرة في التاريخ.
فمنهم من كتب في تاريخ الدول، ومنهم من كتب في تاريخ الصحابة، ومنهم من كتب في تاريخ العلوم، ومنهم من كتب في تاريخ العلماء، ومنهم من كتب في تاريخ حركات معينة جرت في التاريخ، ومنهم إلى آخره، حتى منهم من كتب في السيرة كتابات المتنوعة يدرس فيها ويأخذ العبر والدروس.
وهذه الكتابات إذا لم تكن منضبطة بضوابط شرعية متّزنة، فإن التاريخ كما أنه مختلف، واختلف الناس فيه يعني في صناعة التاريخ، وصارت هناك دول ومذاهب وفرق وحركات لوثت التاريخ في جملته، فإن هذا الموروث سيُحدث تفرُّقا آخر في الأمة كما هو موجود الآن، فكم من دراسات نتج منها آراء جديدة، ونتج منها مذاهب جديدة في عصرنا الحاضر، ومن رأى المكتبة ربما في هذه البلاد الطيبة لا تتطلعون على كثير جدا من الكتابات المنحرفة في التاريخ؛ لأنها لا تدخل هذه البلاد، ولكن من اطلع في غيرها خارج المملكة وجد الكمّ الهائل من الانحرافات في النظرات إلى تاريخ هذه الأمة.
لهذا ينبغي أن يعتني المتمكنون وحداة العلم الصحيح، وطلاب الشمولية العلم والاستيعاب في العلم والموروثات في العلوم المساندة ويجب أن يعتمد بها ككل حتى تكون نظرتهم أقوى وحتى يكون جذرهم أصلب في معالجة ما تستقبله هذه الأمة من أمور الله أعلم بها.
إذا تبين هذا فنعرض لما يتصل بهذا الموضوع؛ لأن هذا الموضوع متشعب وكبير.
فنعرض أولا إلى تقسيمات التاريخ وهي النقطة الرابعة التي ذكرنا.
فقلنا لك إن التاريخ ينقسم إلى ثلاثة أقسام والذي يهمنا منه الآن قسمان:
القسم الأول هو تاريخ الدول:
وهذه الدول، أو الكتب التي كتبت في ذلك منها ما يتعلق بدولة معينة، مثلا كتب مختصة بالدولة الأموية، والدولة العباسية، أو دولة بني حمدان، أو الدول في اليمن يعني الدول في القرون السابقة، أو دولة في مصر أو الدولة الفاطمية، أو في الشرق في خراسان مما كان في القرون الأولى.
وهذا استمر إلى أن كُتبت الآن بعد التقسيمات الحديثة السياسية للبلدان، كُتبت تواريخ مستقلة تاريخ مصر وتاريخ السودان وتاريخ الجزيرة العربية أو تاريخ المملكة تاريخ اليمن تاريخ الكويت تاريخ العراق تاريخ الشام تاريخ المغرب إلى آخره في كم هائل من التواريخ، ما من بلد بعد التقسيمات الجغرافية إلا نهض بعض المتحمسين فكتبوا تاريخا خاصا لهذه الدول أو الأقاليم؛ لأجل صلة الحاضر بالماضي.
أما في الكتب القديمة فمنهم من سماها دول الإسلام كما صنع الذهبي، والذهبي كما وصفه العلماء علماء عصره ومن بعدهم قالوا: مؤرخ الإسلام. فسمّى دول الإسلام وله كتاب آخر كبير، هذا المختصر الصغير، وكتاب آخر كبير سماه تأريخ الإسلام.
وتسمية الأول بدول الإسلام عندي أنه لا بأس به لن هذه الدول المتعاقبة الدول الإسلامية المتعاقبة إلى زمنه.
أما تسمية الكتاب الآخر تأريخ الإسلام، فهذا فيه تفصيل، وهو أنّ التاريخ ينبغي أن ينسب إلى المسلمين، أما الإسلام من حيث هو فإنّه أجلّ من أن تُنسب إليه تلك المفجر تلك الاعتداءات تلك الفتن، وتلك المبادئ، وتلك الوفرة الهائلة من إراقة الدماء من الصراع على السلطة ومن الصراع على الدول، هو أجل من أن ينسب إليه التاريخ الممزق والتاريخ السيئ هذا، فهو في الحقيقة تاريخ المسلمين وليس تأريخ الإسلام إلا أن يكون المقصود تاريخ أهل الإسلام فهذا لا بأس به.
ولذلك تجد أن بعض المعاصرين ممن كتبوا يحذرون من رجوع حكم الإسلام في بلاد المسلمين، يقولون، كما ذكره طه حسين، كما ذكره بعض المستشرقين، وكما ذكره بعض المردة المتأخرين، كفرج فودة وغيره ممن كتبوا في هذه المجالات قال: انظروا إلى تاريخ الإسلام، فهو بعد انقضاء عصر الخلفاء الثلاثة بدأت المذابح والمقاتل والصراع على السلطة، وسفك الدماء، فلم يستقر الحال إلا في ذلك العصر المثالي الذي هو عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعصر الخلفاء الثلاثة، وما بعده لم يستقر على حال.
وهذا في الحقيقة نظر منهم إلى أن تاريخ المسلمين هو تاريخ الإسلام، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا بأمر الإسلام، والله جل وعلا ابتلى الأمة، لاشك في ذلك، ويجب على طلاب العلم أن ينتبهوا إلى هذا التفريق المهم ما بين تاريخ الإسلام وتاريخ أهل الإسلام تاريخ المسلمين، فهل هذا التاريخ صنعه الأذكياء الأتقياء من أهل الإسلام أم صنعه غيرهم؟ والله جل وعلا يبتلي وابتلى الأمة بفتن كثيرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت في الصحيح سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه ثالثة، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مع أصحابه مرة فمروا بمسجد من المساجد فأتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فركع فيه ركعتين، ثم دعا لما فرغ قال لأصحابه «سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، منعني أن لا يجعل بأس هذه الأمة بينهم شديد» أو كما جاء في الحديث وهذا الحديث بالمناسبة استدلوا به على مشروعية الدعاء بعد صلاة ركعتين تطوّع لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتين ثم سأل. وفي سورة الأنعام قال الله جل وعلا ?قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ? لما نزلت قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أعوذ بوجهك» قال ?أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ? قال «أعوذ بوجهك» قال جل وعلا ?أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم?[الأنعام:65] قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هذه أهون» ولما عظم الأمر عنده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -والآية كما هو معلوم مكية- لما عظم الأمر في المدينة وخشي على الأمة أن يكون بأسهم بينهم دعا الله جل وعلا -كما في الحديث الذي ذكرت لك- فمنع هذه.
فالذي وقع هو ابتلاء من الله جل وعلا وفتنة وعقوبة منه سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن يجعل هذا الأصل في تاريخ أهل الإسلام؛ بل ينبغي أن يُنظر في أن تاريخ الإسلام هو ما يوافق الشريعة، أما الفتن والقلاقل فهذه صنعها في الواقع أعداء الإسلام، فالحروب بين الصحابة التي حصلت هذه إنما صنعها الخوارج -كما هو معلوم- والخوارج إنما حركهم بعض براثن اليهود في قصة عبد الله بن سبأ أو ابن السوداء كما هو معلوم في تنقله بين بلاد كثيرة وحثّه للخوارج على الخروج وتشنيع وضع عثمان رضي الله عنه في أنفسهم إلى أن حصل قتل عثمان رضي الله عنه وكانت هي القاصمة في فتن كبيرة أتت بعدها وهكذا.
المقصود من هذا أن من صنّف -صنف في دول الإسلام أو في تاريخ الإسلام- وهو المقصود منه تاريخ المسلمين، وهناك كتب كثيرة تعرض للتاريخ من حيث هو؛ يعني من خلق آدم عليه السلام؛ بل قبل ذلك خلق السماوات والأرض، تاريخ الأرض وتاريخ آدم، وما حصل، وتاريخ الأنبياء إلى أن يأتوا إلى السيرة النبوية الشريفة، ثم يأتوا إلى تاريخ أهل الإسلام كما صنع الطبري وصنع ابن الأثير في الكامل وجماعة.
إذن هذا النوع من التاريخ الكتب فيه على أنواع:
النوع الأول: الكتب التي تروي بالأسانيد، وهذه هي الكتب المتقدمة، ويمثلها تاريخ ابن جرير الطبري، تاريخ ابن جرير الطبري يروي بالإسناد، وقد قال العلماء: من روى بالإسناد فقد برئ من العهدة. وفي زمنه كانت الفتن كثيرة، فهو ذكر بالأسانيد ما وجد، وإن كان يُلام من جهة أن بعض الروايات فيها ما لا يوافق الشريعة، أو فيها الغض من بعض الصحابة أو فيها بعض الأقوال التي يجب أن لا تُذكر في مناصرة فرقة من الفرق ونحو ذلك، والأسانيد فيها مشتملة على بعض رجالات تلك الفرق؛ ولكنه أوردها.
هذا النوع الأول تمثل مدرسة ابن جرير الطبري رحمه الله.
النوع الثاني: مدرسة تاريخ ابن الأثير، وابن الأثير جمع ما تفرّق في الكتب قبله واختار من الروايات -وكان مؤرخا نقادا- اختار من الروايات ما يرى أنه صحيح، أو أنه مقارب للحقيقة، وهو كتاب مختصر على قوته اختاره من كتاب ابن جرير ومن كتاب المنتظم لابن الجوزي ومن نحا هذا النحو.
وكتاب ابن الأثير يتميز بالاختصار ولكنه ليس فيه التطبيق الكبير من النواحي الشرعية للروايات، لذلك يشتمل على أشياء ليست بجيدة؛ لكنه من حيث الاستعراض يعتبر كتابا مختصرا حسنا.
القسم الثالث: التواريخ التي مال أصحابها في النقد؛ نقد الروايات وتمييز الروايات بحسب ما هيئ له، وهذه المدرسة جاءت متأخرة بعد ابن الأثير وهي مدرسة الحافظ الذهبي وتبعه عليه بأكثر منه دقة ابن كثير في البداية والنهاية، وكتابه البداية والنهاية يعتبر من أحسن كتب التاريخ انتقاء.
ولكن هذه الكتب جميعا يعاب عليها أشياء: أولا أنهم ينقلون التاريخ الذي حصل من جهة الوقائع والحروب والجهاد والدول والفتوح والخلافات والفتن، ولا ينقلون التاريخ الحسن الذي كانت عليه الدول، فيذكرون مثلا في السنوات يقولون مثلا: دخلت سنة سبعين وفيها حصل كذا وكذا فيذكرون ما حصل مما نقل من الأشياء التي خرجت عن مألوف الناس، وهي الحروب وما حصل من الخلافات، نزع خليفة وموت القائد أو الحروب للأعداء وفتوح جهادية ونحو ذلك؛ لكن لا يذكرون التأريخ الذي نمت به المجتمعات المسلمين في الأمور الحسنة مثلا في العلم وفي التنظيمات الإدارية وفي التنظيمات العلمية ونحو ذلك.
ولاشك أن الحقبة، مثلا إذا أخذت الحقبة الأموية فإنها تميزت بأمور كثيرة:
أولا تميزت بالفتوحات الإسلامية الكثيرة.
الثاني تميزت بكثرة الفتن في داخلها المتعاقبة من خروج من خرج واعتراض من عارض ومن حصول القلاقل واختلاف القواد وانشقاقات كثيرة فيها.
والقسم الثالث الحركة التنظيمية الكبيرة في الدولة التي نظمت فيها الدواوين ونظمت بها المدارس، ونظمت بها كما في العرف المعاصر الوزارات، ونظمت بها حياة الناس، ونظم بها العطاء، ونظم بها الإقطاع، ونظم بها أشياء كثيرة.
فهذه كلها إذا نظرت للتاريخ فإنه يتعرض للأول والثاني، أما الثالث فتكاد لا تجد عنه خيرا إلا بخبر تلوى خبر ينتزعها من خلال سنين كثيرة أو في ترجمة بعض العلماء أو فيما يرد على استحياء.
وهذا في الحقيقة أفقدنا الحركة التاريخية التي هي متّصلة بالناس اتصالا وثيقا، أما الحروب الفتن فهي التي برزت في التاريخ، أكثر ما تجد الحروب والفتن التي بين الخلفاء والولاة وبين القواد والفتن والقلاقل والانشقاقات التي حصلت، ثم الأقل منها الحركات الجهادية، حتى إذا أتى للجهاد فإنه يقول فتح كذا، ولا يأتي تفصيل كثير يعني بقدر التفصيل الذي يكون في الفتن والخلافات التي حصلت.
وهذا لاشك من مآخذ التاريخ وهذا لا يعني أن هذا هو التاريخ.
فيجب على طالب العلم إذا نظر أن يكون عنده نظر ثاقب في أن التاريخ إنما هو تدوين لما حصل، والذي حصل في حياة الناس ليس هو فقط ما ذكر، إذا نظرت مثلا إلى تسلّط القرامطة مثلا وما حصل من تسلط القرامطة على بلاد الإسلام والفاطميين وهم باطنيون كالقرامطة ونحو ذلك، لا تجد في كتب الإسلام في كتب التاريخ الوصف الكبير لمواقف العلماء ووضع المدارس والعلم والتأليف في تلك الفترة، وإنما تجد الخبر عن تلك الدول وما حصل من فتن وقتل ونحو ذلك، وهذه الحركة الكبيرة لا تجدها؛ لكن اليوم مثلا الناس بحاجة إلى أن يعلموا -ناس من طلبة العلم- يعلموا ماذا فعل العلماء وأهل الحديث والأئمة في تلك الفترة لا تكاد تجد إلا الخبر بعد الخبر يعني يُبحث عنه بالمناقيش، وهذا لاشك قصور من المؤرخين؛ لأنهم درجوا على أن لا يذكروا إلا السيئ أو إلا ما خرج عن مألوف الناس، أما ما كان فيه الدراسة والنظر والمواقف العامة والحركة العامة لأهل العلم وحركة المجتمع والناس فلا يوجد من ذلك إلا الشيء القليل.
القسم الثاني تاريخ الرجال: البحث هذا يطول جدا؛ لكن نذكر بعض ما يهم في هذا، تاريخ الرجال مهم، تاريخ الرجال على قسمين:
تاريخ الرجال من حيث تراجم الرجال؛ يعني بيان سير العلماء، سيرة الصحابة، سيرة التابعين، وهذه السير بجميع ما حصل في حياتهم كما صنع ابن أبي حاتم مثلا في مقدمة الجرح والتعديل، وكما صنع عدد من أهل العلم فيما طولوا في تراجم أهل العلم من الصحابة والأئمة.
وهناك نوع آخر يذكر من تراجم العلماء والرجال ما يتصل بالجرح والتعديل فقط كما هو موجود في الكمال وتهذيب الكمال وتعذيب التهذيب إلى آخر هذه السلسلة؛ لأن المقصود من هذه نقد الرواية.
فإذن الكتب المتعلقة بتراجم الرجال هي على قسمين شهيرين:
القسم الأول: تراجم مستوعبة بحياة العالم حياة الرجال وما فيها من محاسن وما فيها من عبر.
والقسم الثاني: مقصودة لفن من الفنون، فيترجم للقارئ لأحد القرّاء أو يترجم كتب القراء فيما يتعلق بفن القراءة، يُترجم في الحديث فيما يتعلق بفن الحديثـ يترجم للنحاة فيما يتعلق بالنحو، لكن لا يترجم جميع الحياة يعني لا يذكر وصفا كاملا لحياة العلماء ولحياة أهل العلم الذين نقلوا العلم وتحملوه ورووه حتى تكون مدرسة لأهله.
فلذلك ينبغي لطلاب العلم أن يعرفوا أن هذا النوع من التاريخ يحتاجون فيه إلى معرفة مدرسة الكاتب، مدرسة من كتب، تارة يكون من كتب يريد أن يذكر جميع حياة الرجل تارة يكون يريد ما يعلي الهمة في شيء معين، مثل ما فعل الذهبي في سير أعلام النبلاء، هو ينتقي من الأخبار ما يكون فيه علو همة لأجل أن يقتدي كل صنف بمن يعجبون به، فذكر أخبار القواد، وأخبار العلماء، أخبار الساسة، أخبار الفضلاء، أخبار التجار يعني الذين كانت لهم محافل كثيرة في الوقوف يعني في الأوقاف وفي المدارس إلى آخره، يعني حتى يقتدى بهم، وحتى يجعل ذلك معنون له بسير أعلام النبلاء.
ولا تأخذ تاريخ العلماء من كتب الجرح والتعديل فقط؛ لأن هذه فيها أو منوطة بالهدف من ذلك والغاية وهو أن تنقد الروايات، ليس المقصود فيها العلماء المقصود كيف تنقد الرواية، فيقول هذه روى عن فلان وروى عنه فلان، وقال فيه أحمد كذا وقال فيه الشافعي كذا.
لو أخذت مثلا حياة الإمام أحمد وهو من هو على جلالته وعظم شأنه وقدره في الإسلام، لو أخذت حياته من كتب الجرح والتعديل لما وجدت شيئا كبيرا فيه ذِكر لحياة أحمد؛ لكن لو رجعت للكتب المطولة التي كتبت عن حياة أحمد كمناقب أحمد للبيهقي وكمناقب أحمد لابن الجوزي وسيرة أحمد بن حنبل، لغيره كسيرة مثلا الشافعي لابن أبي حاتم والرازي وسيرة الشافعي للبيهقي إلى آخره من هذه السيرـ فستجد فيها أخبارا في السيرة تعطيك قدوة وفائدة في جميع جوانب حياة أولئك العلماء وهكذا في حياة المتأخرين تجد الأمر كذلك.
الأمر الثالث أن ينظر في التاريخ دائما على أنّ التاريخ -يعني ما تجده في كتب- التاريخ أن تقرأه دائما بثلاثة أنواع من الإحساس:
الأول الإحساس الشرعي والعقدي بالخصوص.
والثاني الإحساس بالعبرة.
والثالث النقد الدائم للروايات.
أما الأول: فأن تنظر مثلا إلى ما رُوي في السيرة أو روي في تاريخ الصحابة أو في الوقائع بإحساس عقدي شرعي تميِّز فيه ما يصح شرعا ولا يصح؛ لأن الذي ينقل حتى على فرض أنه صح فإنه إنما يصح في حال من وقعت له الحادثة، ومعلوم أن وقعت له الحادثة لا يؤخذ عنهم التشريع لأنهم مثلا من الجند كانوا يقولون كذا، وربما هذه الرواية لا يكون قالها إلا مجموعة رأوا هذا الرأي، فلا يُحكم على الشريعة بالروايات التاريخية، إذا اختلف الصحابة نرجع إلى السنة فيما اختلفوا فيه من المسائل الفقهية، فمسائل التاريخ أولى أن ترد إذا خالفت الشريعة، ولهذا أدخلت أشياء على سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست بصحيحة في ميزان الشرع ليست بصحيحة من جهة الرواية ولا من جهة المروي.
ولهذا الحس النقدي العقدي والشرعي ينبغي أن يصاحب طالب العلم، بحيث أن لا يقرأ مسترسلا، بحيث أنه يقرأ ويمتلئ من التاريخ وهو لا يشعر بأنه يؤثر فيه في بعض المسائل دون أن يحصل.
مثلا الحركات التي حصلت في تاريخ الإسلام التي فيها الخروج على بعض الولاة، إذا قرأها طالب العلم قد يتأثر بها، ويجعل هذه الحركة مقدَّمة في حصول الخروج في حصول معارضة زمان ما -في زمن بني أمية وفي زمن بعض العباسيين أو فيما بعده- يجعل هذه مؤثرة في نفسه دون أن يرجع إلى الأصل؛ وهو ما جاء في النصوص من تحريم الخروج على الولاة ما أقاموا الصلاة أو ما لم يظهر كفر بواحا، أولئك الذين حصل منهم حركات مختلفة في التاريخ يجب أن تنقد النقد الشرعي الصحيح، وأن توزن بميزان عقيدة السلف، وليست هي حكم على عقائد السلف، نغير عقائد السلف لأجل حركة فلان وفلان مما حصل في التاريخ، ليس الأمر كذلك، وهذه الحركات أثرت في أناس؛ بل أثرت في جماعات من الجماعات المعاصرة في الدعوة، وكان هذا التأثر كبيرا في رسم كثير من الاتجاهات المعاصرة في الدعوة.
وهذا مما ينبغي أن لا يكون كذلك؛ بل أن يكون السبيل الرجوع إلى العلم، إذا كان العلم مقدم على الآراء -آراء الرجال-، لاشك أنه مقدم على ما يروي لنا من التاريخ مما لا نعلم حقيقة ظروفه أو قد يكون أهله أخطؤوا فيه أو كان لهم العذر، الله أعلم بالحقيقة فلا نترك الشريعة، فلا نترك النصوص لأجل أخبار وردت في التاريخ.
القسم الثاني أو الإحساس الثاني: الإحساس بالاعتبار، إذا نظر الناظر في ما جاء في التاريخ فيجب العبرة عظيمة.
أولا من جهة الدول يعني من جهة الخلفاء والولاة، فإنه نجد العبرة مثلا في أن الوزراء والبطانة إذا كانت سيئة فإنها تسوء تصرفاتها، هذا مثال، وهذا يختلف باختلاف كل والي كل حاكم وكل خليفة سلبا أو إيجابا، مدا أو جزرا، فمثلا لما أتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقرّب ابن شهاب الزهري وأمره أن يكتب الحديث فعلى قصر ولايته اهتم الناس بتدوين الحديث وبروايته، يعني ينظر في التاريخ من جهة الدول في حالة الوالي وكيف كان صلاحه كيف كان فساده، وكيف حصل من توليته القواد وكيف حصل من ثورة من ثار عليه، وكيف حصل المجتمع فيهم والخلل، فيستفيد من هذه العبرة في الواقع كل من نظر فيها.
فلاشك أنه طالب العلم إذا نظر فإنه ستؤثر فيه، وإذا أثرت فيه، وأخذ العبرة الصحيحة من ذلك، فإنه سينظر إلى الأمور من حوله بنظر آخر في مسائل كثيرة في ما يأتي وفيما يذر، وربما كان القاصر عن دراسة التاريخ وعن العبرة منه، ربما نظر إلى ما حوله من الأمور نظرا قاصرا، ولم يأتِ زعيم من الزعماء ولا قائد من القواد ولا والي من الولاة كان عنده من القوة والعزة ما قدر الله له، إلا فلابد أن يكون قد أخذ من التاريخ العبرة، فمن انعزل عن التاريخ لاشك أنه ينعزل عن التأثير وعن فهم كيف يؤثر في المجتمعات بحسب قدره وما قدر الله له.
نعم إذا نظرنا في العبرة، وفيما يجري في التاريخ والتأثير فيه، فإنه كما ذكرت لكم في محاضرة سابقة أو درس سابق أنّ منهج أهل السنة في هذه المسائل، أنهم يؤثرون في التاريخ ولا يتأثرون، يؤثرون في الأحداث ولا يتأثرون، لم؟ لأنهم على قواعد صحيحة من قواعد الشريعة، والشريعة لا تتبدل ولا تتغير في قواعدها العامة وفي قواعدها الخاصة وفي تحصيل المصالح وفي درء المفاسد، وهم يؤثرون ولا يتأثرون.
نعم قد يكون تأثيرهم محدودا؛ لكن هذا بحسب الزمان، فإذا نظرت مثلا إلى تأثير الصحابة على جلتهم وعلى علو قدرهم علما وإيمانا ومحبة لله جل وعلا ونصرة لدينه، كان تأثيرهم في زمن علي رضي الله عنه محدودا، لم يؤثروا التأثير الذي يجب أن يكون، وكان تأثيرهم في عهد أبي بكر وفي عهد عمر وفي كثير من عهد عثمان كان تأثيرهم قويا، لم؟ لأن المجتمع والناس والحركة هل تقبل هذا التأثير بكماله أو لا تقبل؟
فإذا نظر طالب العلم في العبرة أين العلماء والأئمة والجهابذة عن قوة التأثير في دولة من الدول أو في زمن من الأزمنة؟ لماذا لم يقلبوا أهل الزمان ولا أهل الإسلام في وقت من الأوقات إلى أن يكونوا صالحين مجاهدين مؤثرين مطيعين؟ لأنهم لا يستطيعون، ولأن أمر الله جل وعلا نافذ، ولأن حكمته بالغة.
فإذن تستفيد من التاريخ أن ما من حقبة تاريخية مرت فيها مفاسد كثيرة وفيها من البلاء كثير، إلا وأهل العلم الراسخون والأئمة إلا وهم يؤثرون؛ ولكن ليس بشرط أن يكون التأثير يقلب الحقائق يقلب الواقع، ويغير التغيير الذي يرجوه من لا يعرف كيفية التعامل مع الناس.
حركة المجتمع تنظر إلى التاريخ القديم والحديث إلى أن حركة المجتمع بأجمعه؛ حركة الدولة، حركة الوزراء في الدولة، وحركة القواد، وحركة الناس، وحركة المنتفعين، وحركة المتسلطين، وحركة من يعمل ويصنع، هذه لاشك أنها ستجابه كل وسيلة من وسائل الإصلاح ووسيلة من وسائل التأثير الشرعي المحمود؛ لكن ما الذي صنعه أهل العلم؟
إذا نظرنا في عهد الصحابة كيف أثروا؟ كان تأثيرهم محمودا وعظيما لما كانوا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان؛ لكن لما حصل الخلاف والناس مرجت عهودهم من عهد علي رضي الله عنه ون بعده صار تأثيره ضعيفا، ولم يكن التأثير السابق، لهذا تذكر الكلمة عن علي رضي الله عنه لما قيل له: يا علي لما لا تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر؟ قال: لما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كان الجنود أنا وأمثالي، أو كانت الرعية أنا أمثالي، ولما أتيت كانت الرعية أنتم وأمثالكم.
وهذا بلا شك يحرج المصلح، ويحرج من يريد التأثير، فإذا نظر طالب العلم في التاريخ، نظر إلى أنه مهما عظم قدر المصلح، أو عظم قدر المؤثر أو قدر العالم فإنه سيؤثر، ولكن التأثير القليل، إلا إن كان الله جل وعلا أراد له أن يكون يعني في زمانه أن يكون يقلب التاريخ رأسا على عقب فإن هذا ربما حقق.
إذا نظرت إلى قوة شيخ الإسلام ابن تيمية العلمية والجهادية في زمنه وقوة لسانه وقوة قلمه وقوة حاله، رأيت أن تأثيره لم يكن التأثير الذي يواكب أو يقارن تلك القوة والملكة العلمية والجهادية واللسانية.
لكن إذا أتيت ونظرت مثلا إلى دعوة وأثر الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهو لاشك أقل من شيخ الإسلام ابن تيمية علما ولسانا وكتابة وهم درجات عند الله؛ ولكن كان تأثيره أعظم وأعظم ونفعه ونشر الخير في بلده وفي الجزيرة وفي خارجها ورد الناس إلى حقيقة الدين وحقيقة الإسلام أكبر وأكبر، علمت أن هذا منوط بالتأثير في التاريخ والنظر في حال الدول وقوتها وفي ضعفها وكيف يكون التفاعل مع ذلك.
فإذن ليس من شرط من نَظر نظر عبرة، وهذا الحس إذا نظرت إليه لا تجد أنّ أهل العلم الماضين قد أثّروا في التاريخ وأثّروا في الدول وفي الإصلاح وفي بثّ الخير أثرا متساويا؛ بل كل بحسبه، وبحسب زمانه، وبحسب ما قدر الله له، وبحسب ما يجد من القبول؛ ولكن نظن في الجميع أنهم يجاهدون والناس فيهم ما بين قادح وما بين مستنقص، وما بين مقتد ومحسن للظن، وهم أهل النظر الصحيح، جعلنا الله جل وعلا منهم.
بهذا فإن التأريخ في الحقيقة يحتاج إلى نظر عبرة وليس بنظر إلى قصص مجردة.
الحس الثالث نقد المروي: وقد ذكرت لك أن التاريخ لم يجعل له مصطلحا اسمه مصطلح التاريخ أو أصول قراءة التاريخ ونحو ذلك، ولم يكتب أحد من أهل الإسلام شيئا في ذلك.
وقد رأيت كتابا لمتأخر من الدكاترة الكتاب صدر من نحو خمسين أو ستين سنة بعنوان مصطلح التاريخ لأحد الدكاترة في لبنان أصدرته الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان صنيعه حسنا في أنه أراد أن يطبق مصطلح الحديث في نقد الرواة وفي نقد الروايات، وبيان العلل علل الرواية من حيث هي على التاريخ، بحيث تجمع الروايات وينظر ما فيه تعارض منها فينفى وما فيه زيادة ثقة، يعني أراد أن يطبق مصطلح الحديث على التاريخ لكنه لم يثاب على ذلك، ولاشك أن تطبيق مصطلح الحديث الذي هو أعني الحديث الذي هو المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي العظيم سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل نقد المرويات التاريخية كنقد سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس كذلك؛ لكن لم يتصدر أحد لهذا.
لهذا ينبغي أن تنظر إلى المروي بنظر منطقي بنظر عقلي، هل يعقل أن يكون مثل هذا أو لا يعقل؟ (وهل يعقل) ليس بنظر نظري بحت، ولكن بالنظر إلى دراسة حقبة معينة لذلك التاريخ.
يعني مثلا إذا نظرت مثلا إلى كثرة المرويات هذه التي جاءت عن عهد عثمان رضي الله عنه وما حصل فيه من كذا وكذا، من أنواع الخلل الكبيرة وقصص، لا يعقل أن يكون ذلك المجتمع قابلا لتلك الأشياء.
إذا نظرت مثلا في عصر متأخر إلى قصص هارون الرشيد رحمه الله وما كان عليه من قوة في الجهاد وقوة في نشر الإسلام وأنه كان يحج عاما ويجاهد عاما وكيف كان من قوته ذلك، فلا يمكن أن تصدق ما أشاعه الرافضة والشيعة، وما أشاعه المستشرقون بعد ذلك في العصور المتأخرة بأنه كان مارج السلوك ومارج الأخلاق صاحب سكر وغناء وسهر في الليالي ونحو ذلك.
فيكون هناك نقد ذاتي بعد معرفة الحقبة من حقب التاريخ التي كانت موجودة.
وهذا لاشك يحتاجه طالب العلم احتياجا.
على كل حال الحديث ذو شجون ويطول الكلام فيه؛ لكن هذا مما ينبغي لطالب العلم أن يتعاهده، والمقام قصير لنفصل الكلام على هذه النقاط التي تحتاج إلى كم واسع، وإلى أن ننظر نظرة أخرى على التواريخ المعاصرة كيف ينبغي الاهتمام بها خاصة تاريخ نجد وتاريخ الدعوة الإصلاحية التي لم يفهم أحد الدعوة فهما حقيقيا؛ يعني من حيث المؤلفات التي ألفت ومن حيث الأحكام التي حكم بها ومن حيث حركة المجتمع، إلا بعد أن يقرأ تاريخ نجد، وتاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة فيعلم كيف كانت هذه الحركة.
وكذلك إذا نظرنا إلى بعض الدول الأخرى المعاصرة كيف حصل فيها الخلل وكيف حصل فيها الاستعمار والتغريب، ولابد أن يقرأ التاريخ ويحصل له من ذلك الفائدة والعبرة والعظة، ولاشك أن تأمل كتاب الله جل وعلا يجعل طالب العلم يحرص على قراءة تاريخ قراءة متأنية وقراءة علم لا قراءة هوى.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[الأسئلة]
س1/ ما هو توجيه قول شيخ الإسلام الدين والملك قرينان؟
ج/ هذه أول من قالها أحد وزراء الفرس، قال هذه الكلمة وهي كلمة صحيحة، وقصد بالدين الاعتقاد الذي يقوم عليه الملك أو دولة من الدول، فإنه ما من دولة قامت إلا على أساس، وهذا الأساس إما أن يكون أساس ديني بحت، أو أن يكون أساس قبلي، أو أن يكون أساس من الأساسات.
إذا كان الأساس دينيا فإنه لا تبقى الولاية إلا ببقاء ذلك الأساس، وإذا نظرت إلى أن الدولة المتعاقبة الدولة الأموية الدولة العباسية كان في أول أمرها لغرض من الأغراض، وقرّبوا فيه أهل العلم قووهم بحسب اتجاههم، ثم بعد ذلك تضعف هذه الصلة شيئا فشيئا حتى يحصل ضعف الاعتماد على الدين، وأصلا إنما قَوُوا بالاجتماع على هذا الأساس.
ولذلك الدين والملك قرينان يعني أنهما ركنان لبناء، فإذا قام ملك ما على الدين فإنه إذا اختل ركن اختل الركن الآخر ولابد، وإنا يضعف أساس الملك إذا ضعف أساس الدين، حتى الدين إذا لم يوجد له ناصر من الملك والولاية فإنه لا يقوم، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المؤيد من الله جل وعلا كان يبحث عن واحد ينصره، ولما نصرته الأوس والخزرج سموا الأنصار، وعيسى عليه السلام قال من أنصاري إلى الله؟ فطلب النصر وطلب القوة هذا ديدن الأنبياء عليهم السلام، ولا غرابة أن يقوم ملك على دين، ولا أن يطلب أصحاب الدين المساندة والقوة من دولة أو من ولاية لأن هذا به ينتصر الدين.
المقصود من ذلك أن كلمة الوزير السالف بأن الدين والملك صنوان وركنان فإذا اهتز أحدهما اهتز الآخر، هذه كلمة صحيحة ولاشك فيها، فكل شيء قام على أساس إذا اختل الأساس فإنه لا يقوم قياما صحيحا.
س2/ لقد قرأت في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، لقد ذكر ابن كثير عند موت شيخ الإسلام أن هناك من كان يتبرك بشيخ الإسلام كيف يذكر ابن كثير ذلك مع عدم التنبيه عليه؟
ج/ هذا فيه كثير من هذه الأشياء، وفي كتب التاريخ تجد كثير من ذكر التبركات أو زيارة بعض القبور، دون أن ينبهوا؛ لأن المقصود ذكر الواقع.
هو من العجائب، أن تجد عالما وإماما يعيش حياته لبيان التوحيد وهو ابن تيمية لما مات كان الناس يلقون على جثمانه على جنازته يلقون العمائم ويتمسحون، وهو عاش كل عمره للجهاد في هذا، وهذا يدلك على أن العامة لا تتأثر بكلام أهل العلم إلا إذا كان ثم ولاية، الولاية قوتها بتأثير كلام أهل العلم أكثر من قوة العالم بمراحل، العالم الذي لا يؤيد كلامه وِلاية ولا تنشره في الناس يكون تأثيره محصورا. ومن يقرأ كلامه؟ العامة لا تدري عنه، تعرف أنه رجل صالح مات، ابن تيمية هو رجل صالح نتبرك به ما تخلصوا من هذه العقائد.
حتى ذكر أن بعد وفاة الشيخ عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة، أن منهم من أراد التبرك، وصُرف، منهم من جاء أراد أن يتمسح وصرف، وجاء الغلو ذلك في القصائد التي رُثي بها سماحة الشيخ رحمه الله بعضها فيها غلو شركي وغلو بدعي وتعظيم غير شرعي ومناداة له بعد وفاته مما كان ينهى عنه في حياته رحمه الله رحمة واسعة.
هذا مما تأخذ منه أن من قال أو أحس شيئا من ذلك أنه يحكي الواقع وليس بصدد النقد.
س3/ ظهر منذ زمن بعض الكتّاب الذين يشككون في تاريخ الإسلام وينكرون وجود بعض الأعلام كإنكار القعقاع بن عمرو التميمي، فما هو الباعث لمثل هذا الإنكار؟
ج/ الباعث قد يكون مذهبيا يعني مثلا عندك شخصيتان الشيعة لا يحبون أن يذكرا في التاريخ أو أثر هذين في التاريخ:
الأول القعقاع بن عمرو.
والثاني عبد الله بن السوداء أو ابن سبأ.
وثم كتابات شيعية كثيرة من قديم في أن هاتين الشخصيتين منحولتان، وأن ليس لها وجود، وكتب التاريخ كثيرة يعني ... هذا الذكر وشاع ومن نقد وأثبت عدم الوجود فإنه معارض في إثبات من أثبته.
والمسألة لها بحث تفصيلي آخر مر ومعكم في الوقت كتابات في الجرائد ما بين إثبات ونفي للقعقاع بن عمرو وعبد الله بن سبأ، وكل السلاسل هذه التي تؤثر على بعض الفرق. والجواب التفصيلي له مجال آخر.
س4/ من هو أفضل من كتب في التاريخ في العصر الحديث، ما رأيك في كتابات محمود شاكر رحمه الله؟
ج/ محمود شاكر اثنان سوري ومصري:
المصري أديب وهو الأستاذ المعروف محمود محمد شاكر وهو من الأشراف يعني نسبه يعود إلى الأشراف، وهذا أديب وهو الذي حقق تفسير الطبري وأصدر دلائل الإعجاز والبلاغة لعبد القاهر وكتبا كثيرة في الأدب والتفسير.
أما المقصود بالسؤال هو محمود شاكر الذي هو من الشام، هذا له كتابات في التاريخ؛ لكنها مطولة وكأن المقصود بها الحس التربوي بالشباب، فيذكر فيها أشياء ليس المقصود منها نقد الرواية من حيث هو، وإنما أخذوا من الروايات ما يؤثر في الشباب حتى تدرس دراسات دعوية وهي من جملة الكتب الموجودة في ذلك.
بالمناسبة فيه طبعة لكتاب الكامل لابن الأثير -نسيت أنبه عنها- طبعها محمد منير الدمشقي، وهي في تسعة مجلدات وطبع ثمانية والتاسع طبع بعد وفاته، وهذه الطبعة فيها تعليقات في نقد كثير من المرويات لأحد كبار المؤرخين المصريين وهو الأستاذ عبد الوهاب النجّار وهو من المؤرخين المعروفين في مصر، وله تعليقات حسنة في كثير من الوقائع التاريخية.
فالانتباه لهذه الطبعة ولهذه التعليقات مهم لطالب العلم إذا أراد الدراسة.
س5/ أيهما أصح في الكتابة وفي نطق كلمة: التأريخ بالهمزة والتاريخ؟
ج/ طبعا من الأصل الاشتقاقي تأريخ، التأريخ بالهمز لأنها أرّخ يؤرخ الهمز أصلي فيها أرخ يؤرخ تأريخا، وأما التاريخ فهو تسهيل، والتسهيل موجود في القرآن في الهمز في مواضع كثيرة عند بعض القراء، مثلا معروف قراءة نافع بالتسهيل وعدم القراءة بالهمز في واضع كثيرة.
وأيضا تطلق التوريخ لأن الهمزة تبدل بواو في في بعض المواضع وبعض أهل العلم يسميه التوريخ، كأن أرّخ جعلها ورَّخ يورخ توريخا، وهذه ليست شائعة وإن استعملها بعض أهل العلم.
المقصود أن الذي على وفق اللغة على وفق الاشتقاق التأريخ بالهمز، وأما التاريخ فهو تسهيل.
س6/ يمرّ كثيرا في البداية والنهاية عندما يترحّم ابن كثير لبعض الصالحين يقول: رحم الله فلانا وقد فعل. فما هو حكم هذا القول ؟
ج/ قد فعل إذا كان المراد بالرحمة بالموت على الإسلام وعدم زيغ القلب قبل الوفاة فهذه العبارة صحيحة، أما إذا كان المقصود الرحمة النجاة من العذاب ودخول الجنة هذه شهادة لميت، وكما تعلمون أن أصل أهل السنة أنه لا يشهد لأحد مات من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
س7/ ذكرتم رحمكم الله أن العلماء ربما كان تأثيرهم في التاريخ ضعيف وهذا حق، ما رأيك لو كان السبب من العلماء أنفسهم ومثاله في عصرنا عدم استغلال وسائل الإعلام المرئي في الدعوة إلى آخره؟
ج/ لو استغلوا هل المعارض لما يقولون هل هو كثير أم قليل؟ أنت الآن أنظر في التقييم إلى وضعك أنت، وإن شاء الله لا نزكي أحدا؛ لكن وضع الرجل الصالح في بيته، هل أهل بيته يطيعونه في كل شيء؟ والذي عنده أولاد كبار وهو يعيش معهم هل يطيعونه في كل شيء، هو له تأثير هذا في بيته، الذي لهم الولاية فيهم؛ لكن هم يطيعونه في أشياء، لكن المدرسة يؤثر من جهة، الشارع يؤثر، الأصحاب يؤثرون، الأقارب في أنفسهم الأخت والأخ والعم والخال لأن لا يستطيع أن ينعزل والشرع ما أمر بالانعزال هؤلاء يؤثرون، فإذا نظرت غلى هذه الخلية، هل تستطيع أن تؤثر فيها بكل التأثير الذي تريد ليس كذلك.
فيه عدد يريدون أن يكون أولادهم على مستوى من الصلاح يرغبونه؛ لكن لا يكون لأن المؤثرات أكبر، لأنه هو ربما ما استطاع أن يؤثر التأثير الإيجابي على ولده أو على أخيه، يكون شاب صالح له في البيت أخ فاسد فاسق يعني لا يصلي ويأتي الموبقات ما يستطيع أن يؤثر عليه وهو يعيش معه يتكلم وبنصح وبقول.
لكن الأمر أكبر من ذلك وهو الأمة فإنه لا يظن في الإنسان أنه مطلوب منه أنه إما أن يكون لما يقول كل الأثر أو لا يفعل.
مثلا نضرب مثالا، مثلا -وأنا كما تعلمون- عانيت بعض الشيء في المسائل الرسمية وفي التأثير على بعض الناس سواء في الداخل أو في الخارج.
تريد أن تؤثر بكل ما تريد فلا تستطيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يقبلوا كل شيء؛ لكن أن تؤثر وأن تجاهد في أن تؤثر، وأن تقرب الناس بشيء وتأمرهم وتحقق مراد الله جل وعلا في هذا هو المطلوب.
لكن هل تستطيع أن تؤثر في كل شيء؟ لا تستطيع أن تؤثر في كل شيء، أحيانا تأتي مسائل تدرأ مفسدة لدرء مفسدة أكبر، تتحمل شيء لتفويت شيء أكبر مفسدة لو حصلت، وتارة تدرج من عندك أو من تدرج شيء تريد أن يحصل في الناس في المجتمع أو في الخارج أن تدرجه شيئا فشيئا.
التعامل مع النفوس أصعب ما يكون، وتارة تأتي وتعمل شيئا في مكان من الأمكنة، ثم تذهب وينشرح الصدر على أن هذا يؤثر، ما تدري بعد ذلك إلا أن تأتي أشياء أخرى تصرف النظر عن قبول مثل هذا الأمر أو عن مثلا توجه المركز الإسلامي عن هذا لما اتفقت معهم عليه، الحركة هذه حركة جهاد يعني مجاهدة، لو كان الأمر كذلك لأطاع الكفار أنبياء الله جل وعلا من أول وهلة؛ لكن لا يخلو من المجاهدة.
فإذن التأثير ليس هو المطلوب، المطلوب العمل؛ يعني ليس المطلوب أن تضع في نفسك أن تؤثر وإن لم تؤثر يئست وقنت هذا لا يمكن أن يرتبط بالناس، المهم أن تعمل وأن تجاهد بحسب ما كتب الله لك.
طالب العلم يجاهد في التعليم في التدريس، في نشر الخير بحسب ما يستطيع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كتب الله له ولاية أو سلطة يجاهد بحسب ما عنده ويأمر وينهى وينشر الخير ويحفز وينصح للأمة ولأئمة المسلمين ولعامتهم، بحسب ما قُدّر له، آخر استطاع أن يؤثر في زملائه وفي الدعوة والخير يفعل ذلك.
لكن هل يقول إذا لم يؤثر فإن معنى ذلك ينقطع عنه؟ نوح عليه السلام وهو المؤيد بإذن الله جل وعلا وهو أول أولي العزم من الرسل مكث ألف سنة إلا خمسين عاما ما آمن معه إلا قليل.
هل المقصود التأثير؟ المقصود العمل؛ لأننا متعبدون بالعمل.
لذلك يخطئ عدد، يخطئون شرعا في أن يقول: فلان إيش سوى؟ أوش أثر عمله؟ ليس السؤال هذا.
السؤال: هل عمل أم لم يعمل؟
أما: هل تأثر الناس أم لم يتأثروا؟ هذا ليس هو المهم، إذا نظرت إلى داعية أو إلى إمام مسجد هل أثرت أم لم تؤثر؟ ليس هذا المقصود، إذا حصل التأثير هذا نعمة وفضل من الله جل وعلا، وإذا لم يحصل فتذكر قول الله جل علا ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?[البقرة:272]، المهم أن تعمل، ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ?[النحل:125]، وكذلك قول الله جل وعلا ?فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ?[الشورى:15]، وكذلك في قوله جل وعلا ?وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا?[المائدة:77].
هذه هي الأصول العامة هي التي ينبغي للإنسان أن يعمل بها، حصلت النتيجة أو لم تحصل، هذا من عند الله جل وعلا.
س9/ من أحرم للحج وعند دخوله لمكة منع من الدخول لعدم حمل التصريح، فهل عليه شيء في ذلك علما بأنه يعرف القرار عن التصريح؟
ج/ أولا ينبغي له أن يلتزم؛ لأن هذا مبني على فتوى شرعية من هيئة كبار العلماء وينبغي له أن يطيع ولاة الأمر من العلماء في فتواهم الشرعية، وأنْ لا يقدم على ذلك، وإذا حصل مثل هذا فإذا فاته الحج فإنه يكون محصرا يتحلل بعمرة، كما هو معلوم، يعني ينتظر إلى يوم عرفة محرما، ثم بعد ذلك إذا فات خلاص، انتهى الحج يأتي يدخل بعمرة، ويتم عمرته؛ ولكن الحج بعد الإحرام به لا يُرفض؛ يعني لا يمكن أن يخرج من الحج إلا بالطواف والسعي إلا بتمام أركانه، الحج إذا كان تمكن وإذا أحصر أو منع فلابد من تحلله بعمرة.
س10/ يدعو بعض المعاصرين لدراسة التاريخ دراسة حديثية؟
ج/ أشرت لك أن هذا غير مقبول ولا يمكن تطبيقه.
س11/ هل يمكن أن يؤصل طالب العلم نفسه من جهة التاريخ من خلال قراءته لمقدمة ابن خلدون؟
ج/ لاشك مقدمة ابن خلدون نافعة في حركة المجتمعات، الحركة العلمية والحركة العمرانية والحركة النفسية وحركة الدول ومن يصلح وكيف تقوم، هي نواة جيدة لهذا الأصل.
س12/ أقترح عليكم أن تشرحوا المنظومة القحطانية؟
ج/ ليست من الكتب الأصلية التي تشرح.
س13/ الفرق بين أسانيد المؤرخين والمحدثين ما هو أثره وأسبابه؟
ج/ هو من جهة الحديث يشدد فيه، والتاريخ لا يشدد فيه من جهة الرواية، يعني الحديث لا نقبل رواية من يخطئ مثلا كثيرا؛ ولكن في التاريخ قد تقبل كان معروفا في السيرة، مثلا ابن إسحاق رحمه الله تعالى لا يُقبل في الحديث إلا بشروط كما هو معلوم؛ لكنه في التاريخ هو صاحب سيرة وصاحب مغازي، فما أتى به فهو مقبول لأن هذا اختصاص الرجل رحمه الله.
س14/ هل اطلعتم على فقه التاريخ للشيخ عبد الحميد الشيباني وفقه الله، وما رأيكم؟
ج/ مع الأسف ما اطلعت عليه لعله يكون تنبيه للإطلاع عليه.
نكتفي بهذا القدر وفقكم الله.
بما أن الباقي من هذا الفصل قليل، ربما شهر ونصف أظن للاختبارات، إلى نصف صفر تقريبا شهر ونصف، فصار الاختيار لكتاب مسائل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله، لنكمل ما سبق بدأته فيه عام 1412هـ يعني بعد ثماني سنين.
نبدأ من المسألة الحادية والأربعين إن شاء الله تعالى لأجل قصر، ونقف إن شاء الله مع الفصل القادم، نبدأ في كتاب جديد حتى نستمر فيه بإذن الله تعالى وفقكم الله وأعانكم وزادني الله وإياكم من كل خير.