يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي يرحمه الله تعالى في أضواء البيان:
اعلم أن الفخر الرازي في تفسيره قسم السحر إلى ثمانية أقسام :
القسم الأول سحر الكلدانيين والكسدائيين
الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ،
ومنها تصدر الخيرات والشرور ، والسعادة والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى
إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم ، وقد أطال الكلام في هذا النوع
من السحر .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومعلوم أن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف .
لأنهم كانوا يتقربون فيه للكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله ، ويرجون الخير من
قبل الكواكب ويخافون الشر من قبلها كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه . فهم كفرة
يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر بالبواح .
النوع الثاني من السحر سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية .
ثم استدل على تأثير الوهم بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه
الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه قال : وما ذاك إلا
أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه . وقال : واجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر
إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران . وما
ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام . قال : وحكى صاحب الشفاء عن أرسطو في طبائع
الحيوان : أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديَكة في الصوت وفي الحراب مع الديَكة
نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ، قال : ثم قال صاحب الشفاء : وهذا
يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية . قال : واجتمعت الأمم على
أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر . فدل ذلك على
أن للهمم والنفوس آثاراً . . إلى آخر كلامه في هذا النوع من أنواع السحر ، وقد أطال
فيه الكلام .
وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه
وسلم ، ولا يتصرف بها في ذلك . فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ، ولا يدل
إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم . كما أن الدجال له من خوارق العادات
ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة ، مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله . وكذلك من شابهه من
مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام انتهى كلام ابن كثير رحمه
الله تعالى .
النوع الثالث من أنواع السحر المذكورة الاستعانة بالأرواح الأرضية
، يعني تسخير الجن واستخدامهم . قال :
واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة . أما أكابر
الفلاسفة فلم ينكروا القول بها . إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية . والجن
المذكورون قسمان : مؤمنون ، وكافرون وهم الشياطين .
قال الرازي في كلامه على هذا النوع من السحر : واتصال النفوس بها أسهل من اتصالها
بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب . ثم إن أصحاب الصنعة وأصحاب
التجربة شاهدوا بأن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة من الرقى والدخن
والتجريد . وهذا النوع هو المسمى بالعزائم ، وعمل تسخير الجن . وقد أطال الرازي
أيضاً الكلام في هذا النوع من أنواع السحر .
النوع الرابع من أنواع السحر هو التخيلات والأخذ بالعيون . ومبنى هذا النوع منه على أن
القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة .
ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة . ألا ترى أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى
السفينة واقفة والشط متحركاً ، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركاً . والمتحرك
ساكناً . والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً . إلى آخر كلام الرازي . وقد أطال
الكلام أيضاً في هذا النوع .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في سورة « البقرة » مختصراً كلام الرازي المذكور
: ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره . ألا ترى ذا الشعبذة
الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا
استغرقهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة ،
وحينئذ ، يظهر لهم شيء غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ، ولو أنه سكت ولم يتكلم
بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما
يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله . قال : وكلما كانت الأحوال تفيد حس البصر
نوعاً من أنواع الخلل أشد ، كان العمل أحسن .
مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم ، فلا تقف القوة الناظرة على
أحوالها والحالة هذه . ا ه منه . ولا يخفى أن يكون سحر سحرة فرعون من هذا النوع .
فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى }
[ طه : 66 ]
فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذكل . وقد دل على ذلك أيضاً قوله في
« الأعراف » : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس
}
[ الأعراف : 116 ]
الآية . لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير
الحقيقة الواقعة ، والعلم عند الله تعالى .
النوع الخامس من أنواع السحر الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة
على النسب الهندسية
، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضربت بالبوق من غير أن يمسه
أحد . ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان
، حتى إنهم يصورونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وبين ضحك الخجل
، وضحك الشامت .
فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل . قال الرازي : وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب
. ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات . ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال ، وهو
أن يجر ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب
السحر لأن لها أسباباً معلومة نفيسة ، من اطلع عليها قدر عليها ، إلا أن الاطلاع
عليها لما كان عسيراً عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر لخفاء مأخذه ا ه .
وقد علمت أن الرازي يرى أن سحر سحرة فرعون من هذا النوع الأخير ، لأن السحرة جعلوا
الزئبق على الحبال والعصي فحركته حرارة الشمس فتحركت الحبال والعصي فظنوا أنها حركة
طبيعية حقيقة . والذي يظهر لنا أنه من النوع الذي قبله كما قدمنا ، ولا مانع من أن
يتوارد نوعان على شيء واحد فيكون داخلاً في هذا وفي هذا . والله تعالى أعلم .
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر كلام الرازي الذي ذكرنا في هذا النوع من السحر
. قلت : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار ، كقضية
قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى
الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم ، وأما الخواص منهم
فمعترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ، فيرون ذلك
سائغاً لهم ، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذي يرون جواز وضع
الأحاديث في الترغيب والترهيب ، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيهم :
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا
صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
« من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » ، وقوله : « حدثوا عني ولا تكذبوا
علي ، فإنه من يكذب علي يلج النار » ثم ذكرها هنا يعني الرازي حكاية عن بعض الرهبان
، وهي أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ، ضعيف الحركة ، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب
في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به ، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل
إلى أن جعله أجوف ، فإذا دخلته الريح سمع منه صوت كصوت ذلك الطائر . وانقطع في
صومعة ابتناها ، وزعم أنها على غبر بعض صالحيهم ، وعلق ذلك الطائر في مكان منها ،
فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع
صوتها كل طائر في شكله أيضاً ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً فلا ترى
النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه . ففتنهم بذلك وأوهمهم
أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة
انتهى كلام ابن كثير .
وذكر الرازي في هذه المسألة التي نقلها عنه ابن كثير : أن ذلك الطائر المذكور يسمى
البراصل ، وأن الذي عمل صورته يسمى أرجعيانوس الموسيقار ، وأنه جعل ذلك على هيكل
أورشليم العتيق عند تجديده إياه ، وأن الذي قام بعمارة ذلك الهيكل أولاً أسطر خس
الناسك .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وهذا النوع الخامس الذي عده من أنواع السحر ،
الذي هو الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية .
الخ لا ينبغي عده اليوم من أنواع السحر . لأن أسبابه صارت واضحة متعارفة عند الناس
، بسبب تقدم العلم المادي . والواضح الذي صار عادياً لا يدخل في حد السحر ، وقد
كانت أمور كثيرة خفية الأسباب فصارت اليوم ظاهرتها جداً . والله تعالى أعلم .
النوع السادس من أنواع السحر الاستعانة بخواص الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض
الأدوية المبلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان
تبلد عقله ، وقلت فطنته ، قاله الرازي . ثم قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار
الخواص : فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب
، والباطل بالحق ا ه كلام الرازي .
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا النوع من السحر نقلاً عن الرازي : قلت :
يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ، ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص
مدعياً أنها أحوال له : من مخالطة النيران : ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحاولات
انتهى كلام ابن كثير .
النوع السابع من أنواع السحر المذكور تعليق القلب
، وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في
أكثر الأحوال : فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق
: وتعلق قلبه بذلك : حصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة : وإذا حصل الخوف ضعفت
القوى الحساسة : فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل ما يشاء .
قال الرازي : وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثراً
عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار . وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع من
السحر عن الرازي : هذا النمط يقال له التنبلة ، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني
آدم . وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه . فإذا كان النَّبيل
حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .
النوع الثامن من أنواع السحر السعي بالنميمة والتضريب من وجوه لطيفة خفية وذلك شائع
في الناس ا ه
. والتضريب بين القوم : إراء بعضهم على بعض .
وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن نقل هذا النوع الأخير عن الرازي قلت : النميمة على
قسمين : تارة تكون على وجه التحريش بين الناس ، وتفريق قلوب المؤمنين . فهذا حرام
متفق عليه . فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس ، وائتلاف كلمة المسلمين كما
جاء في الحديث « ليس الكذاب من ينم خيراً » أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين
جموع الكفرة ، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث « الحرب خدعة » ، وكما فعل نعيم بن
مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة ، جاء إلى هؤلاء ونمى إليهم عن هؤلاء
، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر ، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت .
وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة . والله المستعان .
لقط المرجان